أصعب شيء أن تجد نفسك متعايشاً مع أخبار الحروب، كأنها باتت جزءاً من الحياة اليومية، تقرأ عن القتل والدمار والترويع، وتسمع عن مشاهد دموية لا تحتمل مشاهدتها من فرط قسوتها. تنام بحلم إيقاف صوت الرصاص، وتستيقظ على اتساع صوت المدافع.. اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير عام 2022.

كنا نظن أن نيرانها ستنطفئ بعد أيام، أو أشهر من التدخلات الدولية، بينما خابت كل توقعات المحللين والخبراء، وها هي الحرب تواصل مسيرتها الدامية للعام الثالث على التوالي. وبينما كانت الأنظار تتجه صوب المسرح الأوكراني - الروسي، انفجرت حرب جديدة أكثر ضراوة بين قوة محتلة، وشعب يعاني الحصار والتدمير والقتل على مدى ثمانين عاماً.

في السابع من أكتوبر عام 2023، اشتعلت الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، نتيجة لإهمال القضية التاريخية، وإدخالها مخازن النسيان، ومن ثم كان لا بد أن يحدث ما يجري إلى الآن، بين قوة ضعيفة، وبين دولة ذات أنياب مسلحة، تدعمها كل الدول العظمى تسليحاً وتمويلاً وإعلاماً، حتى وصلت الحرب إلى جريمة الإبادة الجماعية.

ورغم تدخلات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، والمحاكم الدولية، فإن الحرب اتسعت واشتدت، وصارت أكثر ضراوة، وامتدت ألسنة اللهب إلى حرب أخرى في لبنان، واستطار الشرر إلى اليمن وسوريا والعراق وإيران.

وتأثرت بها تلك الدول العربية التي لم تنخرط عملياً في الحرب، وحاولت أن تجد لها مخرجاً آمناً يعيد الاستقرار للشرق الأوسط، ويدعم حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في دولة مستقلة، دونها لن يستقر العالم أو الإقليم. لا يزال الحبل على الجرار في حرب تحولت إلى استنزاف مادي ومعنوي، وإلى إبادة جماعية غير مسبوقة، حتى في الحرب العالمية الثانية.

كنا نظن منذ هذا السابع من أكتوبر أن العالم سيتحرك، ويمنع حرباً قاسية وخطيرة، وربما قد تتحول إلى حرب عالمية ثالثة، لكن - كما جرى في المسرح الروسي - تعمد العالم أن ينحاز للصمت، بل للتواطؤ مع الجريمة الإسرائيلية، تجاه الشعب الفلسطيني، وها هي الحرب تواصل قسوتها، وتمددها لتصل إلى لبنان، وأيضاً يتعمد العالم تجاهلها، ويبدو أن هناك من يرغب في اتساعها لحسابات مغلوطة وخاطئة، سيتحمل العالم أجمع تبعاتها ونتائجها، التي ربما تكون رهيبة وخطيرة، ولا يستطيع أحد منفرداً أن يتحملها وحده، حتى لو كان قوة عظمى.

حينما كانت الأنظار تتوزع بين الحرب الروسية ـ الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على فلسطين، إذا بالأنظار تتجه من جديد إلى حرب أخرى، ومسرحها هذه المرة في السودان، ولا تزال مستمرة، بل تزداد اتساعاً، وتتسبب في تدمير المدن السودانية، وتعبث بالاستقرار، وتحول الشعب السوداني إلى لاجئين ومهاجرين، وتعود بالسودان الدولة إلى مربع الحروب الأهلية، التي رافقته منذ استقلاله عام 1956.

وكنا أيضاً نظن أنه يمكن للمجتمع الدولي بمنظماته الدولية القوية أن يوقف التدمير، ويعيد الاستقرار إلى الشعب السوداني، لكن المجتمع الدولي ذاته يواصل تعمده الجلوس على مقاعد المتفرجين، وتظل الحرب داخل السودان مستعرة، بل تغيب أية آفاق للحل أو لوقف الحرب.

هذه الحروب المستمرة التي لم تجد من يخمد نيرانها، وقد تحولت إلى فلسفة، أستعير هنا تعبير الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في 19 أكتوبر 2023، عندما خاطب الأمريكيين، مؤكداً ضرورة الاستثمار الذكي في الحروب، وكان يحاول إقناع الشعب الأمريكي بضرورة دعم أوكرانيا وإسرائيل بالمال والسلاح، من أجل النصر، رغم محاولات بعض النخبة الأمريكية إيقاف هاتين الحربين في أوكرانيا وغزة.

إن فلسفة الحروب هذه قادت إلى دوائر مفتوحة للصراعات، وترتبت عليها خسائر بلا حدود، على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقادت شعوب العالم إلى التعايش والتكيف مع مشاهد الدم والتدمير، وقتل النساء والأطفال، وترويع الآمنين، وتمزيق أواصر المجتمعات، وبالتالي فإننا أمام أخطار كبرى، من جراء هذه الفلسفة التي فرضت علينا نوعاً من الحروب، يمكن أن نسميها الحروب المنسية أو المستمرة، دون تحقيق نصر واضح، كأنها حرب من أجل الحرب.

كادت هذه الفلسفة تصل بالعالم إلى حافة الهاوية، عندما سربت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي جو بايدن سمح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى في مهاجمة العمق الروسي، وهذا يعني اشتعال حرب عالمية ثالثة، دون ريب، تستخدم فيها الأسلحة النووية. الإقامة في خرائط الحروب أمر كارثي لا يمكن قراءة نتائجه، وترك الأقواس مفتوحة خطر كبير يدفع ثمنه الجميع.



رئيس تحرير الأهرام العربي