قبل أيام قليلة، احتفى العالم باليوم العالمي للتلفزيون. يبدو الاحتفاء بالشاشة الفضية أو أم الشاشات هذا العام، أقرب ما يكون إلى إحياء ذكرى ابتكار المطبعة الورقية، أو اختراع البوصلة، أو اكتشاف البنسلين. مليارات بيوت الكوكب فيها شاشة تلفزيون واحدة على الأقل. عدد شاشات العالم يبلغ نحو 1.73 مليار شاشة، بمعدل شاشة واحدة لكل أربعة أشخاص. هذا عدد كبير، لكن يظل عدد 15 مليار جهاز هاتف محمول أكبر.

ورغم أن كثيرين من سكان الأرض يشاهدون التلفزيون على شاشات الهواتف المحمولة، ورغم أن المحمول لم يغنِ عن التلفزيون، بعد، ورغم أن المحتوى الذي تقدمه شاشات التلفزيون التقليدي، بما في ذلك منصات المحطات عبر تطبيقات رقمية مختلفة لا غنى عنه حتى الآن، إلا أنه في اليوم العالمي للتلفزيون، ننظر إلى هذه الشاشات بعين ملؤها التقدير وأخرى لا تخلو من تفكير يشوبه قلق وربما تعتريه نوستالجيا حول مستقبلها.

الأمم المتحدة، في هذه المناسبة، تقول إن التلفزيون يبقى أكبر مورد للمواد المصورة، وإنه على الرغم من أن استخدام شاشات بأحجام مختلفة مكنت الناس من إنشاء محتوى ونشره ومتابعته على منصات مختلفة، إلا عدد البيوت التي تقتني أجهزة تلفزيون ما زال يزيد. لكن السؤال الذي تطرحه المنظمة الأممية يؤكد المخاوف ويرسخ توقعات مستقبلية تنبئ بتحولات كبرى في مصير شاشتنا الفضية، أم الشاشات.

ما هو الغرض من التلفزيون؟.. نتذكر في هذا اليوم أن التلفزيون لم يعد مجرد قناة أو قنوات لبث المحتوى. صار التلفزيون يقدم تشكيلة من الوسائط المتعددة والمحتوى التفاعلي. التلفزيون بمعناه التقليدي، أي البث المنقول عبر موجات إلى هوائيات نتلقاها في بيوتنا، يشهد تراجعاً بطيئاً، لكن أكيد. أصبحت اتصالات الإنترنت صاحبة اليد العليا.

لم يعد أغلب المتلقين يجلسون أمام الشاشة انتظاراً لنشرة أخبار السادسة أو التاسعة لمعرفة ما جرى صباح ذلك اليوم. كما لم يعد الشريط الخبري العاجل الراكض أسفل الشاشة يأتي حاملاً ما لا يعرفه المشاهدون. حتى المشاهد لم يعد اسمه مشاهداً صار متفاعلاً مع المحتوى، ومشاركاً في اختيار وقت ونوع المحتوى، ومشتركاً عبر دفع اشتراك في هذه القناة أو المنصة دون غيرها.

بالطبع يبقى التلفزيون التقليدي، كشاشة تبث ما تختاره إدارة القناة ومن يملكها، للمشاهد ما تقرر أن تبثه، إلى حد ما. لكن علامات التغيير، ودلائل التحول لا تخطئها عين، أو بيت، أو متلقٍ، سواء كان يكتفي بالتلقي أو يسهم في الاختيار وتغذية المحتوى.

مستقبل أم الشاشات في مفترق طرق. سيستمر التلفزيون في تراجعه البطيء من حيث الغرض من الاستخدام والاقتناء، أو سيتعايش ويمضي قدماً في التغيير وجهود المنافسة، وأيضاً التعايش، مع النسق الجديد من المشاهدة والترفيه والإخبار.

التطورات الرقمية في العقد الأخير تخبرنا أن مستقبل التلفزيون يحمل ثلاثة ملامح رئيسة: المضي قدماً في مبدأ حرية الاختيار للمشاهد، ولكن كله بحسابه، حيث يتضاءل هامش المشاهدة المجانية، وحدوث تغيرات كبرى في صناعة الإعلان، إذ سيصبح في إمكان المتلقي أن يختار نمط المشاهدة الذي يبتغيه بأقل نسبة إعلانات أو عبر خاصية الإعلانات الذكية، ولكن كله بثمنه، الاستمرار في المشاهدة عبر تقنيات الواقع الافتراضي، وما يتطلبه ذلك من تغييرات وتحديثات للشاشات لتتسع لنظارات وسماعات الواقع الافتراضي، بالإضافة لتوقعات شبه مؤكدة بأن تصبح كل الشاشات ذكية في غضون سنوات قليلة.

مستقبل التلفزيون سيعكس وسيؤدي إلى المزيد من الفوارق الاقتصادية والمعرفية والاجتماعية، سواء بين الدول وبعضها، أو في داخل الدولة الواحدة. إمكانات الدول على مواكبة وإتاحة التطورات التكنولوجية والرقمية المكلفة غير متساوية.

وكذلك قدرات الأفراد في داخل الدولة الواحدة.

نصف تعداد العالم تقريباً «أوف لاين»، أو غير متصل بالإنترنت. أغلب هؤلاء في دول العالم النامي، والغالبية من النساء والفتيات. الفجوة الرقمية ليست مجرد فروق بين من يملك ومن لا يملك أدوات وأجهزة تقنية، لكنها أيضاً هوة سحيقة بين من يملك المعرفة، ويصنع المحتوى، ويحظى بإمكانات توسعة المدارك، ومن لا يملك.

*كاتبة صحافية مصرية