هذه التي تقطع الشارع على أقل من مهلها وهي تتحدث بالموبايل، كان أبوها يذهب إلى المختار عندما تأتيه مكالمة من ابنه المغترب في الخارج، المختار هو الوحيد الذي في مقره هاتف له وللقرية. أمها وزعت الحلوى على الجيران عندما دخل الهاتف «أبو قرص» منزلهم أول مرة.
هذه التي تتحدث كثيراً ولا تقول شيئاً. لا شيء يستدعي المخاطرة بحياتها وتشحن موبايلها بالدين، وهن كثر، كدت أدعس واحدة منهن عندما فتحت الإشارة الخضراء وهي لا ترى سوى شاشة الموبايل ومن خلالها ترى عالماً لا علاقة له بالعالم. فقط، أحد الأكسسوارات مع النظارة السوداء والجينز الملتصق بالجسد والكعب العالي و.. لزوم الحضارة!
أية حضارة هذه؟
في كتابه قصة الحضارة، يقول ويل ديورانت إن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الأخلاقية، ومتابعة العلوم والفنون وتبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعد ذلك لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
وقد عرّف ابن خلدون الحضارة بأنّها تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله، كما أنّه عرّفها ضمن الإطار الاجتماعي والتاريخي بأنّها الوصول إلى قمة العمران والتطور الثقافي والشخصي للمجتمع والدخول للرقي الاجتماعي الثابت، فالحضارة بوجهة نظره هي نهاية العمران.
هل العرب حضاريون، أقصد كانوا حضاريين؟
هذا شاهد من أهل أصحاب ما سمي بالحضارة الأوروبية الحالية الذين يعتبروننا اليوم مجرد إرهابيين أو رعاة إبل تائهين في الصحراء. يقول المؤرخ الفرنسي دريبار: نحن الأوروبيين مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرفاهية في حياتنا العامة، فالمسلمون علمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا، فإنهم كانوا عكس الأوروبيين الذين لا يغيرون ثيابهم إلا بعد أن تتسخ وتفوح منها روائح كريهة، فقد بدأنا نقلدهم في خلع ثيابنا وغسلها، وكان العرب المسلمون يلبسون الملابس النظيفة الزاهية حتى أن بعضهم كان يزينها بالأحجار الكريمة كالزمرد والياقوت والمرجان. دريبار يتحدث عن العصور الوسطى حيث احتكاك الأوروبيين اللصيق بالعرب كان في الأندلس الذي استمر حوالي ثمانية قرون.
وحول نظافة أهل الأندلس كتب المؤرخ أحمد بن محمد المقري التلمساني في كتاب «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب» يقول: إن أهل الأندلس هم أشد أهل الله اعتناء بنظافة ما يلبسون، وكل ما يتعلق بنظافتهم الشخصية، بل قد يكون فيهم، من ليس له قوت يومه ولكنه يشتري الصابون، ليغسل ثيابه، حتى يظهر للغير في أحسن حال. يقول الكاتب ساندور موراي في كتابه اعترافات بورجوازي، إن الأوروبيين كانوا يعتبرون أن الاستحمام كفر، ووصف مبعوث روسيا القيصرية ملك فرنسا لويس الرابع عشر بقوله، إن رائحته أقذر من رائحة الحيوان البري.. وكانت إحدى جواريه تدعى دي مونتيسبام تنقع نفسها في حوض من العطر حتى لا تشم رائحة الملك. وكان الهنود الحمر يضعون الورود في أنوفهم عند لقائهم بالغزاة الأوروبيين بسبب رائحتهم التي لا تطاق.
لا تتأتى نظافة الجسد تلقائياً بل من نظافة العقل والفكر ورغد العيش.. ففي تلك الحقبة من التاريخ تصدر العرب العالم في مجال العلوم من طب وهندسة وفلك وحتى طيران. ويكفي أن نذكر صاحب التجربة الأولى في الطيران، العالم عباس بن فرناس الشهير في مجال الفلك والكيمياء والفيزياء، وهو الذي شرح آلية طيران الطائر، وقام بتجربة الطيران الأولى بمساعدة ثوب اخترعه من الحرير والريش، فتسنى له الطيران لمسافة اختلف العلماء في تقديرها مع إقرارهم بطيرانه وتحليقه قبل أن يسقط حين حاول الهبوط، وقدر لابن فرناس بعدها أن يعيش ليشرح أسباب سقوطه، مؤكداً أن عدم وجود الذيل في ذلك الثوب كان من أهم الأسباب.
مهلاً.. أنا لا أقصد أن نعيش على أمجاد الماضي، فالماضي مضى.. بل أقصد لا نجلس في القفص الصدئ الذي وضعنا فيه الغرب واشتغل على إبقائنا فيه وكأننا في غابة من الجهل والتخلف، بينما حضارتنا سبقت حضارتهم التي قامت في مجملها على حضارتنا ونحن نمنا في البصل!
فهل تدرك تلك الفتاة وأمثالها من الجنسين تاريخ أجدادها وتكف عن الثرثرة في الشارع والعمل والبيت وحتى في الحمام؟ وهل يختفي من عالمنا العربي فئة مدمني الموبايل؟