ذكر أستاذ القانون العام التونسي سليم اللّغماني، معلّقاً على قرار محكمة الجنايات الدولية بإصدار بطاقات اعتقال ضدّ عدد من الشخصيات وبالخصوص ضدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يواف غالانت، في إطار ما يُعرف بالوضع في فلسطين المحتلة، «أنّ من يمتلكون القوّة والسلطة ويسيطرون على العالم كان في تصوراتهم وخططهم أنّ محكمة الجنايات الدولية ستكون أداة الأمم المتحضّرة لمعاقبة «السكان الأصليين» و«الهمج» و«المتوحشّين».

ولكن صدور بطاقات الاعتقال هذه كشف أنّ «زعماء بعض مخلوقاتهم المشينة» قد يكونون محلّ متابعات وملاحقات قضائية بسبب جرائم حرب مرتكبة وجرائم ضدّ الإنسانية مدانة بالتأكيد».

الأستاذ اللّغماني شدّد على المأزق الفعلي الذي تردّى فيه «الغرب المتحضّر» والذي وجد نفسه تحت وطأة هيئات وقوانين دولية وُضعت بدقّة لحماية مصالح الأقوياء ولكنّها تضمّنت بعض ما يجعلها مقبولة سياسياً وأخلاقياً من الضعفاء، بما في ذلك، المحافظة على بعض الحقوق وإمكانية إدانة الجميع بمن فيهم الأقوياء.

ومعلوم أنّ محكمة الجنايات الدولية أصدرت الخميس الماضي 21 نوفمبر 2024 بطاقتي الاعتقال ضدّ نتنياهو وغالانت بسبب ما جاء في بيان المحكمة من «وجود أسباب منطقية تدعو للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت أشرفا على هجمات على السكان المدنيين في قطاع غزة».

موضحة في البيان ذاته أنّ جرائم الحرب هذه تشمل، استخدام التجويع كسلاح حرب والقتل والاضطهاد وغيرها من الأفعال غير الإنسانية، وأعلنت المحكمة في بيانها أنّ قبول إسرائيل باختصاص المحكمة ليس شرطاً وهو «غير ضروري».

وبمقتضى مذكرة الاعتقال هذه يكون نتنياهو وغالانت عرضة للاعتقال في الدول المصادقة على إنشاء محكمة الجنايات الدولية وعددها 124 دولة ثمّ تسليمهما إلى مقرّ المحكمة في مدينة لاهاي الهولندية.

ويعتقد الملاحظون أنّ هذه التطوّرات اللافتة والتاريخية تضع مصداقية «العالم الغربي المتحضر» أمام اختبار فعلي للوقوف على مدى التزامها بقوانين وضعتها بذاتها.

وما يجسّد المأزق الغربي هو تباين المواقف من مذكرة الاعتقال بين الخضوع الخجول من بعض الدول الأوروبية بالخصوص لقرار المحكمة والقبول بالعدالة الدولية واستقلاليتها والرفض المطلق من دول أخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أنّ القضاء الدولي لا يمكن أن يُسلَّط على «الديمقراطيات وزعمائها».

ووصف الرئيس جو بايدن قرار الجنائية الدولية بأنه أمر مشين، وقال: «مهما تكن الأدلّة التي تقدمها المحكمة فإنه لا يمكن المساواة بين حماس وإسرائيل» مجدّداً موقف بلاده «الوقوف إلى جانب الدولة العبرية في مواجهة التهديدات التي يتعرض لها أمنها».

ومن جانبه قال المرشح لتولي منصب مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي مايك والتز: «إن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها أي مصداقية»، وكتب والتز على منصة «إكس» أن «إسرائيل دافعت بشكل قانوني عن شعبها وحدودها» ضدّ من وصفهم «إرهابيي الإبادة الجماعية».

وتوعد والتز بـ«رد قوي» من إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب على ما سماه «التحيز» المعادي للسامية من قبل المحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة.

ويبدو هكذا أنّ الموقف الدولي الغربي يُراوح بين القبول المحتشم بالقضاء الدولي وتداعيات قراراته وإمكانية المواجهة مع الهيئات القضائية الدولية ورفض قراراتها بالمطلق، وهو ما يهدّد في العمق المنظومة الدولية المنبثقة عن الحرب العالمية الثانية.

وبقطع النظر عن مواقف الدول الغربية من مذكّرة الاعتقال ضدّ نتنياهو وغالانت، فإنّ هذه التطوّرات أبرزت بشكل واضح أنّ التشبّث بالحقوق استناداً للقانون الدولي على جوره في حقّ الفلسطينيين هو أداة ناجعة على المدى المتوسّط والبعيد وهو تشبّث يعاضد الصمود الميداني على الأرض بعيداً عن كلّ أشكال التطرّف والمغالاة التي تهدف إلى تقويض الحقوق المؤسّسة على القانون الدولي، بما يؤدّي إلى ضياع هذه الحقوق.

وإنّ السلام والاستقرار يصبحان في باب المستحيل متى غيّبا المشترك بين البشرية على نقصانه وجوره أحياناً، وهو ما يجعل من التمسّك بالقانون الدولي رغم طغيان سياسة تعدّد المكاييل، حجّة بين يدي الضعيف تسند صموده الميداني وتصل به إلى تحصيل الحقّ والعدالة والأمن والسلام والاستقرار والتحرّر والحرية.