البحث العلمي كان ولا يزال القوة الرئيسة الدافعة وراء أغلب التطورات التحويلية التي حققتها وتفتخر بها البشرية. ابتداءً من الإنجازات الطبية المنقذة للحياة، مروراً بالثورة التقنية التي فرضت هيمنتها فغيرت الوتيرة التي كنا نعيش ونعمل من خلالها، إلى استكشاف الفضاء. فالبحث العلمي في أي مجال هو أساس التقدم والابتكار. وعليه يُعتمد في سبر أغوار التحديات العالمية، من أوبئة، وتغيرات المناخ ومصادر الطاقة النظيفة واكتشاف حلول مبتكرة لها لتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين جودة الحياة للفرد والمجتمع. لذلك فإنه لا يمكن تجاهل الدور الرائد للبحث العلمي، ومتى فعلنا، دفعنا الثمن غالياً.
البحث العلمي وعلى أهميته، لا يخلو من التحديات، وقد يكون التمويل أهم عقبة في طريق العلماء، إذ إن إجراء الأبحاث يتطلب دعماً مالياً سخياً، لتعزيز البنية التحتية وتوفير المعدات اللازمة وتأهيل الموظفين والطلبة، ناهيك عن التكلفة التشغيلية للبحث، سواء كان هذا البحث علمياً بحتاً «وهو مهم جداً وإن كانت أهميته تخفى على الكثيرين»، أو تطبيقياً يفترض أن يتمخض عن منتج يدر عوائد مالية. وبالتالي فإن أي نقص أو سوء إدارة لتمويل الأبحاث سيؤثر سلباً ليس على الباحثين فحسب، إذ يخنق الأفكار المبتكرة، بل سيترك التحديات العالمية الحرجة تستشري وتزداد خطورة دونما حل يلوح في الأفق. لذلك فإنه من الأهمية بمكان أن ننصت وننتبه لهذا التحدي وأن نجتهد في علاجه.
بناءً على نقاش عميق مع جمع من أبرز الباحثين، أستعرض هنا، وباختصار شديد، أهم العقبات التي تواجه العلماء وتحد من إنتاجيتهم من حيث التمويل:
العقبة الأولى: عدم توفر الدعم المادي الكافي، الدعم المادي المتوفر لا يتوافق مع الطموحات. عالمياً، تأتي إسرائيل في المرتبة الأولى من حيث الإنفاق على الأبحاث كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.56%، وكوريا الجنوبية في المرتبة الثانية بنسبة 4.93% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثالثة عالمياً كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي 3.46% بينما هي الأولى عالمياً من حيث المبلغ بالدولارات. محلياً، لم أجد ما يوضح حجم إنفاق دولة الإمارات في البحث العلمي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن محركات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تتوقع أن تكون النسبة أقل من 1.5%. إلا أن الحق الذي يجب أن أشهد به كعالم من الميدان، أن في أغلب الأحيان في دولة الإمارات، مع ندرة التمويل، إلا أن مردود الأبحاث المدعومة أقل من الدعم التي حصلت عليه، كنتيجة حتمية للعقبة الثانية.
العقبة الثانية: عدم كفاءة آلية تقييم الأبحاث، إذ إن التقييم، أولاً: لا يميز بين البحث الذي يُجرى لإنتاج علمٍ ينتفع به، وبين بحث يُجرى فقط لتوليد أرقام تنشر في أي مجلة علمية والسلام. ثانياً: يفضل الأبحاث السريعة أملاً في الحصول على منتج مطلوب في السوق، والحقيقة أن الأبحاث السريعة ليست إلا حرقاً سريعاً للموارد.
العقبة الثالثة: عدم تغطية جميع مراحل البحث، الدعم المادي على ندرته، يقتصر في أغلبه على دعم المراحل الأولى في البحث العلمي، والحقيقة أن البحث العلمي المُنتِج له مراحل متعددة ابتداءً بالفكرة أو الفرضية، مروراً بإثبات الفرضية، وصولاً إلى المنتج المطلوب الذي قد يكون عِلماً سيبني عليه العلماء اللاحقون أو منتجاً مادياً يحتاج إلى تسويق. ولو كان المنتج دواء على سبيل المثال، فإنه يحتاج إلى تجربته على حيوانات التجارب ومن ثم إلى دراسة سريرية. إلا أن الباحث يفاجأ بأن جميع المنح المعروضة ترفض دعم التجارب على الحيوانات أو ترفض دعم التجارب السريرية على سبيل المثال.
العقبة الرابعة: حصر التمويل على تحديات محددة فقط. وهذا يعني إقصاء جميع التخصصات الأخرى على أهميتها.
العقبة الخامسة: تحديد وقت قصير لإتمام البحث، يقول أحمد شوقي: لكل شيء في الحياة وقته ***وغاية المستعجلين فوته. البحث العلمي له مساره ومفاجآته، وقد يتطلب جزء منه الإعادة والتحوير أكثر من مرة.
لذلك كله، ولأن البحث العلمي يعتبر حجر الزاوية الأهم في أي مجتمع إنساني وبناءً على جودته تتفاضل الأمم فيما بينها، فإنني أقترح على الجهات المسؤولة، أن تنشئ جهة اتحادية تعنى بإدارة عملية دعم الأبحاث العلمية، سواء كانت الجهة الداعمة حكومية أو خاصة، والارتقاء بها كمّاً وكيفاً، في خُطى حثيثة لتكون دولتنا الفتية الأولى على مستوى العالم من حيث جودة الأبحاث ونتاجاتها.
ولله در أحمد شوقي إذ يقول: بالعلم والمال يبني الناس ملكهم*** لم يُبنَ ملك على جهل وإقلال.