لو أن أحداً عاد إلى أبريل 2016 فسوف يجد صورة تداولتها الصفحات الأولى من صحف العالم وقتها، لا لشيء، إلا لأنها من بين الصور التي لا يمكن أن تُنسى. الصورة كانت تنقل لنا منظر جون كيري، وزير خارجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ذلك الوقت، وهو يوقع اتفاق المناخ عن بلاده في باريس. ولم يشأ كيري أن يجعل توقيعه من النوع العادي، وإنما أراده توقيعاً لا ينساه الذين تابعوه.

الصورة كانت كالتالي: جلس وزير الخارجية الأمريكي على الطاولة، وأمسك القلم في يده اليمنى، بينما يده اليسرى كانت تحيط بحفيدته الطفلة، التي أحضرها معه من الولايات المتحدة وأجلسها على طاولة التوقيع، لتكون جزءاً من المشهد أولاً، ولتكون شاهدة بالنيابة عن جيلها ثانياً، ولترسل بوجودها في المكان معنى مهماً كان لا بد من أن يخرج من عاصمة النور ثالثاً.

كان المقصد أن اتفاق المناخ الذي جرى توقيعه هناك هو اتفاق من أجل المستقبل، وأن الدول التي ستوقع عليه إنما تفعل ذلك من أجل جيل الحفيدة الأمريكية، التي كانت تتطلع إلى ما يدور حولها وأمامها ولا تعرف بالتأكيد ماذا يجري ويدور، ولا بد أنها عندما تكبر وتملك الوعي الكافي سوف تكون ممتنة جداً لجدها الذي أحضرها شاهدة على مناسبة عالمية تابعها العالم في كل مكان.

التغيرات المناخية التي زحفت على العالم في السنوات الأخيرة لا تستثني دولة من زحفها ولا من تأثيرها، ولا تعترف بطبيعتها بما بين الدول من حدود، وتمضي في طريقها وفق نظرية الأواني المستطرقة الشهيرة، التي تقول لنا إننا إذا صببنا ماءً في إناء بين عدد من الأواني ترتكز على قاعدة أنبوبية تصلها ببعضها البعض عند أسفلها، فإن الماء يتسرب إليها كلها فيستقر عند مستوى واحد فيها جميعها ولا يستثني إناءً منها.

هذا بالضبط هو ما أصبح العالم يعيشه، وهو يحيا تحت ضغط تغيرات المناخ، ثم وهي تشتد وطأتها عليه من عام إلى عام، وقد وصلت هذه الوطأة قبل أعوام قليلة إلى حد أن الفيضانات التي ضربت باكستان غمرت ثلث مساحتها بالماء. ولم يكن ما أصاب باكستان من جراء تغيرات مناخ العصر سوى مجرد مثال من بين أمثلة على اتساع العالم.

ومن بعد مؤتمر باريس تعددت مؤتمرات المناخ وتنوعت وتنقلت بين عاصمة وأخرى، ومن مدينة إلى سواها، فانعقدت السنة قبل الماضية في شرم الشيخ، وانتقلت السنة الماضية إلى دبي، ثم استقرت آخر نوفمبر من هذه السنة في باكو عاصمة أذربيجان، وفيه اتفقت الدول الصناعية المتقدمة على توفير تمويل قيمته 300 مليار دولار لمساعدة الدول النامية على التعامل مع تغيرات المناخ وعواقبها على أرضها.. أما لماذا الدول الصناعية المتقدمة هي التي تعهدت، فلأن 80% من الانبعاثات الضارة بالبيئة تخرج من هذه الدول دون سواها.

وفي باكو تعهدت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بالتعاون مع بقية دول العالم من أجل عالم أقل تأثراً بتغيرات المناخ فيه. وإذا كانت إدارة بايدن قد تعهدت فنحن نصدقها لا شك، ولكن المشكلة أنها سوف تغادر البيت الأبيض في العشرين من يناير، وسوف تحل في محلها إدارة الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، الذي لما دخل البيت الأبيض في 2016 أعلن انسحاب بلاده من اتفاق باريس!.. فكأنه لم يخذل العالم وحسب وقتها، لكنه خذل جيلاً كاملاً هو جيل حفيدة كيري، كما خذل بالضرورة أجيالاً ستأتي من بعد جيل الحفيدة، وستعاني بالتأكيد من تغيرات المناخ إذا لم يأخذها العالم بالجدية التي تتلاءم مع خطورتها.

ماذا سيفعل الرئيس الأمريكي المنتخب تجاه تعهدات مؤتمر «COP29» الذي انعقد في باكو، وكيف ستتصرف إدارته إزاء قضية كهذه؟، فهي قضية لم تعد تمثل نوعاً من الترف كما كانت في سنين ماضية، وإنما صارت من بين ضرورات الحياه للأفراد وللدول على حد سواء.

لم يذكر الرئيس المنتخب شيئاً بهذا الخصوص، ولكنّ كثيرين يراهنون على أنه سيذهب إلى ولايته الثانية مستفيداً من تجربة الولاية الأولى، والأمل كله أن ينتبه إلى أن شعار «أمريكا أولاً» الذي يتبناه يجب ألا يكون على حساب مناخ العالم، خصوصاً وأن بلاده واحدة من بين الدول الصناعية السبع الكبرى التي تضر المناخ بأكثر مما تضره دولة غيرها.