تعطل قفل باب مسكني في بريطانيا، فاتصلت بفني لإصلاحه.. أنهى عمله في غضون ثلاث دقائق، ثم قال: الأجرة 150 جنيهاً إسترلينياً. دفعني الفضول لسؤاله عن مؤهلاته، فأجاب: أنا مهندس، ظننته يقصد بأنه فني لأن engineer كلمة تطلق في إنجلترا على الفنيين عموماً..

ثم استدرك قائلاً بابتسامة: لا بل أنا مهندس مدني حقيقي وخريج إحدى أفضل 20 جامعة في بريطانيا، لكنني اخترت هذه المهنة لأنها تدر علي دخلاً أعلى من مجال تخصصي.

هذا الحوار دفعني للتفكير في الفجوة بين القيم الاجتماعية والمادية المرتبطة بالمهن الفنية في العالم العربي مقارنة بالبلدان المتقدمة كبريطانيا، وألمانيا، واليابان. في منطقتنا، تُعتبر الشهادات الجامعية مفتاحاً للترقي الاجتماعي والوظيفي، بينما يواجه التعليم التطبيقي أو الفني vocational training تحديات في الحصول على التقدير نفسه.

في ألمانيا، يُعامل التعليم الفني بتقدير بالغ، إذ ينظر إلى المهارات المهنية للعمالة في ألمانيا على أنها أحد الشروط الأساسية والحيوية لضمان ارتفاع القدرة التنافسية للاقتصاد، بحسب تقرير لغرفة الصناعة العربية الألمانية.

وللألمان ريادة في هذا المجال، حيث قدمت بلادهم أول لائحة عامة لإنشاء مدارس التدريب المهني عام 1874. وتُدخِل مراكز التدريب المهني والفني كوادرها في برامج مكثفة تمتد إلى ثلاث سنوات تشمل جوانب نظرية وميدانية بالعمل في الشركات.

وبعد التخرج يصبح الفرد مؤهلاً للعمل مباشرة في كبريات المصانع والشركات، ذلك كله جعل ألمانيا تتصدر العالم في إنتاج المكائن العظيمة والسيارات عالية الجودة.. وأصبحت أجور الفنيين تضاهي ما يجنيه بعض المهندسين.

أما في اليابان، التي اشتهرت بالجودة، فيعتبر التعليم المهني ركيزة أساسية لاقتصادها. وقد قرأنا عن برامج التدريب في شركات مثل تويوتا التي أصبحت الأفضل عالمياً وصارت تقلدها شركات أخرى. والفنيون الذين يعملون في خطوط الإنتاج يتقاضون رواتب تنافسية مع فرص ترقي تعتمد على الأداء وليس المؤهل الأكاديمي فقط.. هذه الاستراتيجية أسهمت في رفع إنتاجية الموظفين ووضعت اليابان في طليعة الدول المصدرة للتكنولوجيا المتقدمة.

أما في دول مجلس التعاون الخليجي، فنجد أن الإقبال على التعليم الجامعي يغلب على التعليم الفني، مما يؤدي إلى تراكم أعداد كبيرة من الخريجين الذين يواجهون تحديات في العثور على وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم.

وتشير الأرقام الواردة من البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة، إلى أن خريجي الدورات التدريبية المكثفة في البرمجة وتكنولوجيا المعلومات (coding bootcamps) يحصلون على رواتب تنافسية من دون شهادة جامعية. ومن حسنات إدارة الرئيس ترامب، أنها أصدرت قراراً صار بموجبه الاعتماد على المهارات أكثر من الشهادات في القطاع الحكومي.

إذا استمر التركيز على التعليم الجامعي فقط، سنواجه فائضاً في الخريجين مقابل نقص حاد في الفنيين المهرة.. هذا يعني تأخر المشاريع الوطنية، وارتفاع تكاليف الاستعانة بالعمالة الوافدة.

الحل يكمن في تبني تجارب ألمانيا واليابان، من خلال تقديم حوافز مالية للمهن الفنية، وتعزيز مكانة التعليم الفني في المجتمع، وتطوير برامج تدريبية تتماشى مع احتياجات السوق. لا شك أن المعاهد الفنية موجودة لدينا لكننا نحتاج إعادة نظر جذرية في أدائها ومخرجاتها لتذهل العاملين بسوق العمل من جودة ومهارة خريجيها.

إن دعم التعليم الفني ليس ترفاً، بل ضرورة اقتصادية واستراتيجية.. فالدول التي ركزت على تطوير المهارات الفنية، مثل ألمانيا واليابان، وضعت نفسها في مقدمة الاقتصاد العالمي..

وعليه إذا أردنا تحقيق تنمية مستدامة في منطقتنا، فعلينا إعادة النظر في أولوياتنا وتشجيع التعليم الفني باعتباره ركيزة أساسية لمستقبل أكثر ازدهاراً.. ذلك أن المستقبل لا يعتمد فقط على الشهادات الجامعية، بل على المهارات التي تُحول الأفكار إلى واقع، وكثير من المهارات تأتي من الفنيين الذين تبنى بسواعدهم صناعات عديدة.