شارل مالك الأستاذ والمفكر اللبناني قال مبكراً في أولى سنوات قيام إسرائيل: إذا لم تهزم إسرائيل في السنوات الأولى، فإنها لن تهزم، فسّر ذلك في كتيب نشرته جريدة النهار اللبنانية، وقدم له المرحوم غسان ثويني، مالك كان يعرف أن حاضنة إسرائيل هي بريطانيا، وممولتها هي أمريكا، وكان مطلعاً على المسألة اليهودية في أوروبا، وكيف عومل اليهود هناك، وبحثوا عن خلاص مع مضطهديهم في الغرب في البحث عن ملجأ، فلا مناص لهم إلا التحالف مع القوى الأهم والأكبر والمهيمنة على الساحة العالمية، في سبيل إيجاد وطن قومي لهم، الذي أخذ شكل الاستعمار الاستيطاني.

يعرف مالك أن لبنان بلد صغير لا قبل له بمواجهة تلك الهجمة الكبرى القادمة من القرن التاسع عشر الأوروبي، وأن لبنان يمكن أن يقدم النموذج الحضاري وليس المكافئ العسكري للقادمين الجدد.

تلك الفكرة المركزية يجب العودة إليها اليوم، بعد ما شهدنا من الفضائح، سواء في غزة أو لبنان وحتى الضفة الغربية، أن القوة العسكرية ليست متوفرة لمقارعة إسرائيل، وعلينا أن نفكر بنموذج آخر، وهو في الحالة اللبنانية بناء دولة تعددية متعايشة.

هذا النموذج الحضاري يمكن أن يكون أفضل مما استطاعت إسرائيل بناءه، فهي عادت إلى الانغلاق على ما تسميه الخصوصية اليهودية، ومع الصراع الطويل انزاحت إلى عنصرية ثقافية، تبدو واضحة لمن يتابع الصراع في السنوات الأخيرة في الداخل الإسرائيلي، فقد ظهر أنها باتجاه أن تضع معظم المبادئ الإنسانية خلف ظهرها.

لبنان يستطيع أن يقدم النموذج المنافس لما هو في إسرائيل، ما عطله هو الفكر المشعوذ الذي تبناه حزب الله، وفي تقييم للذات أعلى بكثير من الواقع، واعتقد قادته أن الكلام يمكن أن يحل مكان الفعل، وكان ذلك وهماً لا أكثر، فتم إيجاد معادلة تقوم على خراب لبنان، وحماية المقاومة، قابلتها فكرة مناقضة، هي محو المقاومة وإقامة لبنان، وهي معادلات ليست بالضرورة صحيحة، فهي تناقض مدهش ينم عن تعصب غير عقلاني.

لقد منع حزب الله بناء النموذج، وقيام مكون حضاري كان لبنان يحمل كل العناصر الممكنة له من موقع جغرافي إلى رأس مال بشري ذي تعليم جديد إلى علاقات مع العالم.

لم يمنع حزب الله قيام نموذج إيجابي في لبنان، بل فعل ذلك في سوريا وساعد على فعل الشيء نفسه في اليمن، وامتد إلى العراق، بل وحاول في دول عربية قريبة وبعيدة عن لبنان، تلك المحاولات ظهر فشلها في حرب العام من أكتوبر - أكتوبر 2024، كما ظهر فشلها في المناطق الأخرى التي تدخل فيها الحزب فغابت الدولة وتهجر الناس.

أمام النخب اللبنانية اليوم فرصة للعودة لبناء النموذج المضاد والمنافس، أي بناء دولة قائمة على التراضي بين مكوناتها المختلفة، يحكمها دستور ومواثيق، يتنافس فيها الجميع من خلال صناديق الانتخاب، ولها مرجعية عسكرية واحدة، هي الجيش اللبناني، ذلك أفضل من النظام الظلامي الذي ساد في العقود القليلة الأخيرة، وهمش الدولة لصالح عصبيات قادت إلى الدمار.

لبنان التنافسي غير المسلح، المنسجم بين مكوناته تحت مظلة القانون، والمفعم بالمعاني الإنسانية، والمتوافق مع القوانين الدولية، ليس فيه أكثرية ولا أقلية، هو النموذج التنافسي مع إسرائيل، ذلك ما يبدد العتمة التي تسود حتى الآن.

خطاب السيد نبيه بري عشية الاتفاق على وقف إطلاق النار مشجع، وواضح أنه متحرر من الضغوط السابقة التي قيدت حركته، ويحتاج ترجمة خطابه ذاك بعدد من الخطوات التي يبدو أنها قادمة بأكثر مما يتوقع البعض، فالإعلان عن تاريخ محدد لانتخاب رئيس الجمهورية وما يعنيه من عودة المؤسسات هو اختبار للساسة اللبنانيين بوضع لبنان الدولة أولاً، فهل يفعلون؟ الأيام المقبلة سوف تجيب عن ذلك السؤال، إما بناء لبنان، أو إكمال هدمه!