في ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء 3 ديسمبر الجاري، فاجأ الرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك يول، العالم، بفرض الأحكام العرفية في كافة أنحاء البلاد، وتعطيل الدستور، وحظر التجمعات، ونشر قوات الجيش والأمن.

هذا القرار المفاجئ، حبس أنفاس العالم، بل أرعبه من احتمال وجود صلة للقرار بهجوم وشيك من كوريا الشمالية المسلحة بأسنان نووية وباليستية، وبالتالي، غرق الشرق الأقصى في وحول مشابهة لوحول الشرق الأوسط، خصوصاً أن الرئيس برر قراره بالقول بأنه من أجل حماية كوريا الجنوبية الليبرالية، من التهديدات التي تمثّلها القوات الشيوعية، والقضاء على العناصر المناهضة للدولة.

توالت الأحداث سريعاً بعد ذلك، وسط مخاوف من سقوط هذه الدولة الصناعية المزدهرة في براثن الفوضى والاقتتال الداخلي، التي قد تستغلها بيونغيانغ للقيام بغزو مسلح.. حيث نزل آلاف المواطنين إلى الشوارع، للتنديد بقرار رئيسهم، على الرغم من تأخر الوقت، وبرودة الطقس، وبقوا في الشوارع إلى ساعات فجر اليوم التالي، مرددين شعارات تدعو إلى عزل الرئيس، فيما كان الأكبر سناً منهم، يستعيدون وقائع سابقة مماثلة، خضعت فيها بلادهم للأحكام العرفية زمن الزعيمين الديكتاتوريين تشون دو هوان، وروه تاي وو، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والذي شهد قتل المئات، واعتقال الآلاف، وحظر الأنشطة السياسية، وإغلاق الجامعات، والإمعان في اختلاس المال العام.

وبينما كان الجيش الكوري الجنوبي ينفذ أوامر قائده الأعلى بفرض الأحكام العرفية، نجح عدد من النواب (190 من أصل 300 نائب)، في تجاوز الإجراءات المشددة المحيطة بمبنى البرلمان، والوصول إلى داخله، لعقد جلسة طارئة، انتهت بالتصويت على قرار يطالب رئيس البلاد بوقف فرض الأحكام العرفية فوراً.

لمعرفة أسباب ما حدث، لا بد من العودة إلى الوراء، إلى مارس 2022، وهو التاريخ الذي جرت فيه انتخابات رئاسية لاختيار خليفة للرئيس المنتهية ولايته آنذاك، مون جاي إن، حيث فاز يون كمرشح لحزب سلطة الشعب المحافظ، على منافسه مرشح الحزب الديمقراطي، جاي ميونغ، بنسبة بسيطة بلغت 48.6 %، مقابل 47.8 % للأخير.

وقتها علق الكثيرون، مشيرين إلى تواضع قدرات الرئيس الفائز، بل وُصف بالرئيس المبتدئ، كناية عن افتقاره إلى أي خبرة برلمانية وسياسية سابقة، أو أي سجل إداري حافل بالإنجازات، عدا عن شهرة استمدها من عمله بالمحاماة، وقيامه بتوجيه الاتهامات بالفساد للرئيسين المحافظين السابقين، السيدة بارك غين هي، ولي ميونغ باك، ثم شهرته كمدعٍ عام متمرد في عام 2013، حينما كشف عن ضغوط تعرض لها لوقف التحقيق في دور المخابرات الوطنية لجهة التلاعب في نتائج انتخابات عام 2012، وهو التمرد الذي أدى إلى إبعاده لسنوات عن المناصب الرفيعة، إلى أن أعاد سلفه الرئيس مون جاي إن تعيينه في عام 2017 مدعياً عاماً.

ويمكن القول إن فوزه بنسبة ضئيلة جداً على مرشح الحزب الديمقراطي، ثم فوز وسيطرة الحزب الديمقراطي على الجمعية الوطنية، بعد إجراء انتخابات تشريعية اتسمت بالاستقطاب السياسي الحاد في أبريل 2022، جعلت الرئيس يون بطة عرجاء، لا تستطيع السير قدماً بسرعة لتحقيق أجنداته.. إذ كلما سعت حكومته لتنفيذ بعض البرامج والأفكار، قام البرلمان المسيطر عليه من المعارضة بتعطيلها، بدليل تعثر اتفاق الحكومة والبرلمان حول ميزانية العام المقبل، بل قيام نواب المعارضة باستقطاع نحو 2.8 مليار دولار من الميزانية المقترحة من قبل الحكومة، وهو الأمر الذي اعتبره الرئيس محاولة متعمدة من خصومه لتعطيل الإنفاق على وكالات حكومية وأنشطة خاصة بمكتبه الرئاسي، وصندوق الاحتياط، وأجهزة الأمن والشرطة والادعاء والتحقيق ومكافحة المخدرات والسلامة الوطنية، إضافة إلى الإنفاق على مشتريات الأسلحة الأمريكية، لتعزيز قوة البلاد في مواجهة كوريا الشمالية.

ومن هنا، قيل إن الرجل المستاء من هكذا وضع، قد يكون نما إلى سمعه خبر عن خطط برلمانية لإضعافه، ثم عزله، فسارع إلى ممارسة صلاحيته الرئاسية، بإعلان الأحكام العرفية، مطبقاً مقولة: تغدى بخصومه قبل أن يتعشوا به، ومستخدماً تهمة الشيوعية ضدهم، وهي تهمة ليست ببعيدة تماماً عنهم.. فالمعارضة، بقيادة الحزب الديمقراطي، لئن كانت تمثل يسار الوسط، إلا أن بين رموزها من هو أقرب إلى أقصى اليسار، ولا يتبنى خطاباً حاداً ضد نظام بيونغيانغ الشيوعي، بل يطالب بالتفاهم معه.

وكما هو معروف، تراجع يون عن فرض الأحكام العرفية بعد يوم واحد، نزولاً عند طلب البرلمان، كما قال، فنزع بذلك فتيل أزمة، هو وبلاده في غنى عن تداعياتها. وهو حسناً فعل بذلك، وإنْ قيل إنه لم يتراجع إلا بضغوط مارسها الحليف الأمريكي.

وجملة القول، إن الضرر قد وقع، فالرئيس بقراره المفاجئ، ثم تراجعه السريع، أضر بسمعته، وما تبقى له من رصيد شعبي، ولا نستبعد أن يتم عزله لاحقاً، بضغط شعبي وبرلماني معاً.