نقلت وكالات الأنباء مشهداً لعدد من النشطاء يقفون أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا، بينما يحمل بعضهم لافتة كبيرة عليها هذه العبارة: نحن نراقب. وقد بدا الأمر في اللحظة التي نقلت فيها وكالات الأنباء هذا المشهد، وكأن الكاميرا تنتقل من التركيز على المحكمة الجنائية الدولية، إلى محكمة العدل الدولية، فالمحكمتان في مدينة واحدة، على كل حال، ولن تستغرق الكاميرا في انتقالها بينهما من مشهد إلى آخر مجاور، الكثير من الجهد ولا الوقت.

وإذا كنا طوال الأيام المنقضية قد عرفنا القصة في المحكمة الجنائية الدولية، وأحطنا بتفاصيلها، فما القصة بالضبط في محكمة العدل؟.

القصة أنها ستنظر خلال النصف الأول من هذا الشهر، قضية المناخ وتغيراته في العالم، وسيكون على 100 دولة ومنظمة، التقدم بمرافعاتها في القضية، وسيتطلع العالم بعد انقضاء نصف الشهر إلى لاهاي، ليرى ماذا ستقرر المحكمة.

من المعروف أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، كانت في عام 2023، قد راحت تتبنى قراراً بسؤالين اثنين في هذه القضية. كان السؤال الأول عن مدى التزامات الدول في تغيرات المناخ على نحو ما يقول القانون الدولي، وكان السؤال الثاني عن المسؤولية القانونية التي يفرضها القانون الدولي ذاته على الدول التي تتسبب في تغيرات المناخ. وإذا كان علينا أن نتوقف أمام شيء في مشهد النشطاء الذين وقفوا يراقبون أمام المحكمة، فهذا الشيء في حقيقته شيئان، وليس شيئاً واحداً.. أما أولهما، فهو أن انعقاد المحكمة بقضاتها للنظر في قضية تغيرات المناخ، يجيء مباشرةً في أعقاب مؤتمر COP29، الذي انعقد في باكو عاصمة أذربيجان، ففيه تقرر تخصيص 300 مليار دولار، تقوم بتوفيرها الدول المتسببة في تغيرات المناخ، للدول المتضررة منها، على مدى زمني يمتد من الآن وحتى عام 2035.

ورغم ما قد يبدو لنا من ضخامة الرقم، إلا أنه في حقيقته، وبالقياس على الأضرار التي سيكون عليه أن يعالجها، يكاد لا يكفي لشيء.. ولذلك، لم يكن غريباً أن تحتج عليه الدول المتضررة، وأن تراه غير كافٍ لمواجهة ما ينتظرها من مخاطر مناخية، وأن ترى أن المدى الزمني المرتبط به طويل أكثر من اللازم، وبعيد بأكثر مما هو مفترض. هذا الشيء الأول.. أما الثاني، فهو أن جميع النشطاء الذين اصطفوا أمام محكمة العدل، كانوا من الشباب، ولم يكن بينهم مَنْ هو خارج هذه الفئة العمرية.

والمعنى في هذا، أن قضية المناخ وتغيراته، كانت، وحتى وقت قريب، قضية من قضايا الترف الفكري، إذا صح التعبير، ولم يكن يهتم بها أحد خارج مراكز البحث والتفكير المتخصصة، ولكن التغيرات المناخية المتوالية والمتراكمة، نقلتها من دائرة النخبة الفكرية، إلى عرض الشارع بين آحاد الناس. إن مشهد النشطاء أمام المحكمة، لم يكن مألوفاً إلى سنين قليلة ماضية، ولو خرج هؤلاء النشطاء قبل تلك السنين، ووقفوا وقفتهم هذه، لكان العالم قد راح يتطلع إليهم باستغراب واستنكار، ولكان كثيرون بيننا قد راحوا يتطلعون نحوهم بوصفهم مجموعة من غير العقلاء!.. وهذا في حد ذاته ما يبعث على الطمأنينة إزاء ملف تغيرات المناخ، لأن الوعي به لم يعد يتوقف عند حدود الحكومات ومراكز البحث، ولكن الوعي تعدى ذلك إلى عموم الناس، بل وإلى الشباب على وجه الخصوص، من بين عموم الناس.

وأياً كان موقف محكمة العدل في نهاية الفترة المقررة للنظر في الأمر، وفي مرافعات الدول والمنظمات، فإن مثل هؤلاء النشطاء الذين رفعوا لافتاتهم أمام المحكمة، لن يغفلوا عن القضية، وسوف يزدادون بها وعياً، بقدر ما سوف يزداد عددهم، وسوف تجد الدول التي تتسبب في تغيرات المناخ، أنها غير قادرة على الإفلات من المسؤولية عما يترتب على ما تفعله. القضية تكتسب جمهوراً في صفها كل يوم، والدول الصناعية الكبرى، ليس أمامها سوى الإقرار بأنها تسببت في ما يعاني منه العالم، ثم التسليم بأنها ملتزمة بإصلاح ما أفسدته صناعاتها على ظهر الكوكب.