المتاحف بشكل عام، هي واحدة من أهم الوسائل لفهم فلسفة التراث وتعزيز الهوية الثقافية، فهي فضاءات تربط الأفراد بجذورهم الثقافية، وتعيد صياغة الحاضر من خلال استحضار القيم والمعاني التي رسختها الأجيال السابقة، في إطار حي ومتجدد. وتكتسب المتاحف أهمية استثنائية ليس فقط باعتبارها أدوات لحفظ التراث، بل كبوابات إلى إدراك فلسفي أعمق للتواصل الإنساني.
فلسفة التراث لا تنحصر في جمع الأشياء وحفظها، بل تمتد إلى إدراك كيفية تفاعل الإنسان مع ماضيه وتشكيل مستقبله بناءً عليه. في عالم يعج بالتحولات السريعة، يصبح التراث بمثابة نقطة استقرار، تعيد توازن المجتمعات وتوجهها نحو الأصالة مع التكيف الواعي مع العصر. المتاحف، بطبيعتها، تمثل هذا التفاعل بين الثابت والمتغير، فهي تلتقط لحظات من الزمن، وتجعلها حاضرة لتؤدي دوراً في تشكيل المستقبل. وهنا تتجلى فلسفتها في قدرتها على جمع المادة والمعنى معاً، بحيث تصبح كل قطعة أثرية أو معروض تراثي نافذة لرؤية أوسع تشمل الإنسان، والمجتمع، والتاريخ.
المتاحف الخاصة، على وجه الخصوص، تحمل بعداً شخصياً يجعلها فريدة في وظيفتها. فهي غالباً ما تعكس مبادرات فردية تتشابك مع هوية مجتمعاتها. إنها تعبير صادق عن شغف الأفراد أو العائلات بالاحتفاظ بذاكرتهم الحية، ونقلها إلى الأجيال القادمة. ومن هنا تبرز أهمية المتاحف الخاصة كجزء من فلسفة التراث.
في ظل الجهود المبذولة لتعزيز التراث في الإمارات، نرى تطوراً ملحوظاً في السياسات التي تستهدف دعم المتاحف الخاصة، والتي تعكس فهماً عميقاً لدورها الحيوي في الحفاظ على التراث وحمايته وجعله أداة للتنمية الثقافية والاجتماعية. فالتحفيز على إقامة المتاحف الخاصة وتشجيع الأفراد على المساهمة فيها يعزز من حيوية التراث، حيث تصبح هذه المتاحف منصات تجمع بين الحكايات الشخصية والرؤى الجماعية، وبين الإبداع والتقاليد.
يمكن أن نستخلص من هذا المشهد فلسفة شاملة ترى أن التراث هو إرث وكيان حي يحتاج إلى التفاعل المستمر. لذلك، فإن المتاحف الخاصة تمثل هذا التفاعل بأبهى صورة. إنها تعيد تقديم الموروث بطرق جديدة، وتخلق سياقات تجعل التراث جزءاً من الحياة اليومية بدلاً من أن يكون مجرد ذكرى محفوظة.
دولة الإمارات، من خلال مؤسساتها الثقافية والتراثية، تعمل على دعم هذه الرؤية الفلسفية للتراث، وذلك من خلال رعاية المبادرات التي تعنى بالمتاحف الخاصة وتوفير الإطار التشريعي والمؤسسي الذي يضمن استدامتها. مطلع هذا الأسبوع مثلاً، نظمت دائرة الآثار والمتاحف برأس الخيمة، ندوة المتاحف الخاصة وأهميتها السياحية باستضافة كريمة من سعادة جاسم محمد بن درويش النعيمي، وقد تحدث فيها كل من سعادة ناصر الدرمكي رئيس مجلس إدارة المجلس الدولي للمتاحف، وسعادة د. عبد العزيز المسلم رئيس مجلس إدارة معهد الشارقة للتراث وسعادة أحمد عبيد الطنيجي المدير العام لدائرة الآثار والمتاحف برأس الخيمة والسيد عبدالله محمد المطيري مستشار سابق بهيئة الثقافة والفنون بدبي، حول سبل تفعيل وتطوير المتاحف الخاصة برأس الخيمة.
يقول الأستاذ الكاتب نجيب الشامسي: «المتاحف الخاصة تمثل إضافة نوعية للمشهد الثقافي في دولة الإمارات، حيث تعكس الحس الوطني والانتماء لأصحابها الذين بذلوا جهوداً كبيرة من وقتهم ومالهم لتعزيز الوعي بالهوية الثقافية والاعتزاز بالتاريخ الوطني. تعد هذه المتاحف أدوات حيوية لإحياء التراث وتوثيق تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات متعددة تتطلب الدعم المالي والمعنوي لضمان استدامتها. ومن الضروري إدماج هذه المتاحف في المشهد السياحي والاقتصادي، مما يعزز من دورها كرافد للتنمية الوطنية ووسيلة لتوثيق وتجديد العلاقة بين المجتمع وتراثه».
هذه الفعاليات القيمة تبرز النهج الذي تتبناه الإمارات لتعزيز التكامل بين هذه المتاحف وبين المشاريع السياحية والثقافية الكبرى.
التفاعل بين التراث والسياحة يمثل بحد ذاته تجسيداً لفلسفة التراث؛ فالسياحة الثقافية لا تعني فقط زيارة المواقع التاريخية أو مشاهدة القطع الأثرية، بل رحلة لاستكشاف المعاني والقيم التي تحملها هذه الأشياء. والمتاحف الخاصة تضيف إلى هذه الرحلة بُعداً شخصياً وإنسانياً يجعل التجربة أكثر قرباً وتفاعلاً.
يمكن القول إن فلسفة التراث، كما تعبر عنها المتاحف العامة والخاصة، تحمل رسالة إنسانية عميقة. إنها تؤكد أن التراث ليس مجرد مجموعة من الأشياء، بل هو تعبير عن الحياة والقيم التي تشكلت عبر الزمن. المتاحف، سواء أكانت عامة أم خاصة، تظل ركائز أساسية في هذه الفلسفة، حيث تجمع بين الحفظ والابتكار، وبين الفرد والجماعة، وبين الماضي والمستقبل. وفي دولة الإمارات، يشكل هذا النهج جزءاً من رؤية أوسع تضع التراث في قلب الهوية الوطنية، وتجعله وسيلة للتواصل مع العالم.