يشكل التراث الثقافي لأي مجتمع مرآة لتاريخه وذاكرته الجمعية، فهو ليس فقط رصيداً من الممارسات والأشياء المادية، بل يحمل في طياته قيماً وروابط إنسانية تربط الماضي بالحاضر وتوجه المستقبل. ولكن، كيف يمكن أن نحفر في الذاكرة التراثية؟ وكيف يمكن لهذه العملية أن تكون جزءاً من سوسيولوجيا التراث؟

يعتمد مفهوم «الحفر في الذاكرة التراثية» على البحث العميق في مكونات التراث، والعودة إلى جذوره العميقة لاستخراج القيم الأساسية التي شكلت المجتمعات.

كما يتطلب هذا الحفر تواصلاً مع عناصر التراث التي قد تبدو للوهلة الأولى هامشية أو غير بارزة.

هذه العملية ليست مجرد نبش للماضي، بل هي عملية حيوية تستهدف إعادة قراءة وفهم التراث بطريقة أشبه بالتنقيب عن تماثيل منحوتة بدقة في طبقات الزمن، تتطلب فهماً عميقاً وخبرة دقيقة.

هذه العملية تحتاج إلى خبراء مختصين يفهمون تعقيدات التراث ويعرفون كيف يستخرجون العناصر الدقيقة المخفية في الطبقات الزمنية.

الفيلسوف «كارل شميت»، يقدم فكرة «الاستثناء» كآلية فهم التراث في حالات خاصة واستثنائية. في الحفر عن التراث، علينا أن نتعامل مع كل عنصر من عناصره كحالة استثنائية تحتاج إلى معاملة خاصة ودراسة دقيقة.

وبما أننا اتفقنا سابقاً أن التراث هو جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية الإماراتية، فعلينا أن ندرك أن هناك عناصر ما زالت مخفية تحتاج إلى الحفر والتنقيب الدقيق.

والتي تتمم لنا صورة كاملة عن ذاكرتنا الجمعية، فالبحث عن أهازيج الأطفال والأغاني الشعبية النسائية مثلاً، يتطلب مقابلة عدد كبير من كبار السن، ومراقبة دقة النطق، واللحن الذي تقدم فيه الأهزوجة والبحث في الظروف التاريخية والاجتماعية المحيطة بهذه الأغاني.

الفهم الخاطئ أو الاسترجاع السطحي قد يؤدي إلى تحريف التراث، وبالتالي يصبح من الضروري التعامل مع هذه المهمة بحساسية وفهم عميق.

عالم الاجتماع «أنتوني غيدنز»، الذي عرف بتطوير نظرية «التشكل البنيوي»، يقدم إطاراً لفهم التراث كجزء من العمليات الاجتماعية الحية، حيث يرى «غيدنز» أن الأفراد والمجتمعات يشكلون بنية التراث من خلال تفاعلهم المستمر معه.

في الإمارات، التراث لا يتمثل فقط في الممارسات الموروثة، بل هو أيضاً عملية حيوية تتطور مع مرور الزمن نتيجة للتفاعل الاجتماعي.

ولكن وفقاً لـ«غيدنز»، فإن التراث يعاد إنتاجه في كل مرة يمارس فيها، وهذا ما يجعل كل أداء للتراث فريداً في ذاته.

على سبيل المثال، الاحتفالات التقليدية التي تقام اليوم ليست نسخة طبق الأصل من الاحتفالات التي أقيمت قبل 50 أو 100 عام. ولكن بفضل التفاعل الاجتماعي، يتم الحفاظ على جوهر التراث حتى مع مرور الزمن.

الحفر في الذاكرة التراثية هو عملية دقيقة تتطلب عناية واهتماماً بالتفاصيل، من خلال الفهم السوسيولوجي للتراث، بالتحليل المتعمق لكل عنصر من عناصر التراث، حسب ما ورد في كتابي (سوسيولوجيا العادات والتقاليد لمرحلة الميلاد في مجتمع الإمارات)، للتركيز في الحفر والتحليل كعملية حية للحفاظ على التراث دون إهماله أو تحويله إلى مجرد بقايا ماضٍ.

وبعدها يمكننا التعامل مع التراث الإماراتي كجزء حيوي من هوية الوطن والمواطن، وهو جسر ممتد قائم بين ماضيه وحاضره ومستقبله.

إن الحفر في الذاكرة التراثية يعني أيضاً إعادة اكتشاف القصص التي ظلت غير مروية لفترات طويلة.

الفيلسوف الفرنسي «بول ريكور» في كتابه «الذاكرة، التاريخ، النسيان» يشير إلى أن الذاكرة ليست فقط مجرد تخزين للوقائع، بل هي وسيلة لفهم الدلالات والقيم التي يحملها التاريخ.

لذلك فإن الحفر في الذاكرة التراثية الإماراتية يعيد إحياء قيمنا المجتمعية المتجذرة، وإعادة تقديمها بصورة معاصرة تناسب التحديات الجديدة التي قد تواجه الهوية الوطنية.

وحتى لا نغرق في الفلسفة، وليبدو ما نقوله مفهوماً وواضحاً، فلنفترض مثلاً أننا وجدنا أثناء الحفر كلمة «مرحبا الساع»، وهي كلمة يعرفنا الناس بها، فحين نكون خارج الدولة مثلاً، ويعرفون أننا إماراتيون، يقولون لنا «يا مرحبا الساع»، وهذه دلالة أكيدة على أن هذه الجملة جزء أساسي من هويتنا، والتي لا تدلل فقط، كيف كان الناس في الإمارات يستقبلون ساعي البريد الذي يحمل الأخبار السارة، بل إن الشعب الإماراتي الذي كان يقولها منذ مئات أو آلاف السنين، يتميز بالترحاب والكرم والجود، فيكون عملنا هنا هو المحافظة على هذه الجملة، ووضعها في قصائد وأغانٍ جديدة حديثة، كما فعل الفقيد الشاعر «حمد سهيل الكتبي» فغناها الفنان راشد الماجد أو «مرحبا الساع بنظر عيني وقلبي هلا» التي غناها الفنان ميحد حمد، أو استعمالها كشعار في الحملات الإعلامية ذات الرسائل المجتمعية الثقافية العميقة، وهذا مجرد مثال بسيط لعشرات الآلاف من مفردات التراث، التي ما زال معظمها مدفوناً، وقد تبقى مدفونة إلى الأبد، إذا لم تجد من يحفر وينقب عنها.

بدأنا الحفر والتنقيب منذ ما يقرب الأربعين عاماً، وأصدرنا كتباً تراثية مهمة، وهناك جهات تعمل على مدار الساعة لاستكشاف تراثنا الأصيل العريق، ولكن كل ذلك للأسف، لا يضعنا على أول الطريق، والمطلوب هو وضع سياسات شاملة تتعلق بالتراث الإماراتي، ينتج عنها خطط واستراتيجيات واضحة وفاعلة تتجمع فيها الخبرات والجهود المتخصصة لإرساء معالم الطريق الذي يجب السير فيه بهمة ومثابرة وعزم ونقله للأجيال القادمة بأمانة وموضوعية وحرص شديد.