Al Bayan

راشد بن سعيد حضور لا يغيب

مثل نجم متوهج بالنور، لا تزال ذكرى المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم عميقة الحضور في نفوس أبناء شعبه الذين أحبوه وأحبهم، وأسكنهم في فؤاده حين كان يغدو ويروح في بناء مجدهم وتأسيس قاعدة عزّهم، فأسكنوه القلوب حين غادر طيفه مرابع دبي، تلك المدينة التي تدين بأفضل ما فيها إلى فارسها ومهندسها وعاشقها.

وراسم خريطة مسيرتها، الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، ذلك القائد الفذ الذي رسخ ثقافة البناء بصمت وجرأة وإقدام، في ظروف كان يطلب فيها القادة مجرد السلامة والرضا بالحد الأدنى من المنجزات، لكن الشيخ راشد بن سعيد وبما جبل عليه من فروسية نادرة، ونظرات متوقدة، وهيبة قيادية كان له شأن آخر في إدارة الحكم وبناء الدولة والإنسان.

كان الشيخ راشد بن سعيد مدرسة أخلاقية ما زال إشعاعها عميق التأثير في حياتنا، وقدوة فذة على مستوى القيادة لا ترضى إلا بالمعالي والمكرمات، أدرك في مرحلة مبكرة أن مجد الوطن لن يكون إلا بإنشاء الاتحاد الذي يجمع شمل الإمارات، ووضع يده الأمينة الواثقة بيد فارس الوطن وباني نهضته المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.

وكان من أكبر الداعمين لفكرة قيام دولة الإمارات، وخاض قبل ذلك كثيراً من التحديات في سبيل إخراج دبي من بوتقة الإدارة الأجنبية، وحين قامت دولة الإمارات وطلع نجمها في سماء العروبة، جعل معركته الكبرى هي بناء الوطن والإنسان.

وبحسب عبارة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، التي وصف فيها الجوهر العميق لشخصية والده، حين قال في تغريدة له كتبها في ظلال الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل فارس دبي، رحمه الله: «كانت حياته عملاً دائماً، وكانت راحته لحظات فكر وتدبير، وكانت جلساته جلسات حُكم وبناء. ابتعد عن معارك السياسة الصفرية، وركّز وقته وجهده وفكره في الاقتصاد والتنمية».

حين يحاول الإنسان الاقتراب من شخصية الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، للكتابة عنها، يشعر بشيء من الحيرة، ففي هذه الشخصية نوعان من ملامح التفرّد والعبقرية: الإنسانية الفريدة التي تقوم في جوهرها على الصدق والبساطة والحكمة والحزم ومناقب الإنسان النبيل الذي يعيش إنسانيته الحقة، وملامح القيادة الفذة التي تتجلى في هذا الذكاء الفطري.

وهذه الجرأة النادرة التي نهضت من خلالها مدينة دبيّ، وأصبحت وجهة عالمية من خلال مجموعة ضخمة من المشاريع والإنجازات التي اتخذ قرار إنشائها الشيخ راشد بن سعيد في مرحلة مبكرة من مسيرة الإمارة نحو التطوّر وتحقيق المكانة العالمية، وحين نقرأ الحضور العميق للشيخ راشد بن سعيد في السيرة الذاتية التي كتبها صاحب السمو الشيخ محمّد بن راشد، يقف القارئ مبهوراً أمام هذا التسجيل الدقيق الأمين لكلّ ملامح الإنسانية العالية والإدارة المتميزة للشيخ راشد، رحمه الله.

ومن هنا ظل هذا الوالد الكبير مصدر إلهام لصاحب السموّ وأنجاله الكرام الذين يستلهمون مسيرة الآباء الكبار الذين رفعوا هذا المنار العالي لهذه الإمارة الفريدة المتميزة.

كان الشيخ راشد، رحمه الله، يفرق على نحو دقيق بين الجرأة في اتخاذ القرار، وبين ممارسة سلطة المستبد، ويؤمن بأن الاستبداد في الحكم هو أقصر الطرق للفشل.

ولذلك كان يستشير ذوي الرأي والمكانة من رجالات دبيّ منذ أن بدأ مرحلة حكمه، ويرى أنّ الإنسان لا يتوقّف عن التعلم، وكان هذا هو الدرس الأول الذي تلقاه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد من مدرسة والده، وجعله محور حديث في القصة الثانية عشرة من سيرته الذاتية بعنوان:

«ثلاثة دروس مع بداية حكم راشد» قصّ فيها مجموعة من المواقف الثمينة التي ظلت مصدر إلهام وإرشاد لصاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد الذي ما زال إلى يوم الناس هذا يعتز بهذا المعلّم الكبير الذي تلوح على وجهه ملامح الفروسية والحزم والبشاشة، فكان عهده على دبي عهد انطلاق وإنجاز، وتصميم على أن تكون هذه المدينة وجهة عالمية تتمتّع بكلّ المزايا التي تتمتع بها المدن العالمية الكبرى.

وبقدر ما كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حريصاً على تسجيل ملامح النبوغ الإداري لمهندس دبيّ الذي كان يبهر المهندسين بدقة متابعته للمشاريع الكبرى، كان حريصاً أيضاً على إبراز الجانب الإنساني العميق في شخصية والده.

ولا سيّما في علاقته مع والدته طيبة الذكرى الشيخة لطيفة بنت حمدان، رحمها الله، وكيف عاش هذان القلبان المؤتلفان حياة في غاية اللطف والإنسانية والتعاون في بناء الأسرتين: أسرة البيت الصغيرة، وأسرة دبيّ الكبيرة، وكيف أنّ هذا الفارس القيدوم الشجاع انفطر قلبه حزناً على رفيقة دربه حين غادرت هذه الحياة، وتغيّر طعم كل شيء حين ودّعتْ فارسَ دبيّ وسبقته إلى منازل الرحمة والمغفرة.

هناك أشخاص يعيشون كأشخاص أفراد، وهناك أشخاص يعيشون كمدارس مُلهمة عميقة الإشعاع والتأثير، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، هو مدرسة متميّزة في الحكم والإدارة والإنسانية، وما زال تأثيره عميق الحضور في حياتنا؛ بسبب إرثه الأخلاقي ومنجزاته الماثلة للعيان.

وهذا هو طابع القادة الكبار، فالقائدُ الحقيقيّ ليس هو الذي يستولي على كرسي الحكم، بل هو القائد الذي يصنع للوطن قصة نجاحه ومسيرة تنميته، وللإنسان قصة كرامته وعمق انتمائه لوطنه الذي يستخرج من الإنسان أفضل ما فيه، حين تكون معادلة الحكم قائمة على الحب والثقة والوفاء الحقيقي للقادة الذين كتبوا قصة الوطن بمداد البذل والتضحية والعطاء.
ذكراك يا راشدَ الخيرات باقيةٌ
عطرٌ يفوح على أرجاء دنيانا
أبناءُ شعبك ما زالت جوانحُهم
بالحبّ تنبضُ تذكاراً وعرفانا