نقل التاريخ لنا بأن الزُّهاد، على اختلاف دياناتهم وألوانهم وألسنتهم، لم يجدوا ضيراً في اختيار العزلة الطوعيّة عن العالم، نمطاً في الحياة، ينطوي على جزء من ممارساتهم الروحية، يستهدفون من ورائها التكريس للعبادة والتأمل؛ فهم يشعرون في هذه العزلة بأقصى درجات الطمأنينة والمتعة.
فأحدهم يبحث، وبحرص شديد، عن مكان قصي ينتبذ إليه، ليتلطّى فيه خلف نطاق ماديّ، ونفسيّ افتراضيّ، يحجبه عن العيون بما يكفي، ويحرم الآخرين من إمكان الوصول إليه. هو يأنس بعزلته ويستلذ. ويقصر إحساسه هذا على ذاته؛ إذ يعتبر مجرد البوح به إلى الآخر من البشر، مدعاة للحرمان، وأمر كهذا إن وقع، فقد يفسد المشروع برمته.
قد تكون العزلة المختارة، وممارستها، وما تقطّره في نفوس الزهّاد من لذة، حقيقة، وليست وهماً أو تهيؤاً، لكنّا نعلم بأن الحقيقة دائماً ما تكون نسبية؛ فالإنسان لا يعرف الشيء إلا في علاقته بشيء يشبهه، أو يختلف عنه. كما لدى المفكر عبد الوهاب المسيري؛ فالمعرفة الإنسانية هي معرفة مقارنة قبل أي شيء.
هنالك من يعتبر أن الحاجة للعزلة الطوعيّة، ليست بتلك الضرورة، وما يقوله «العزليون أو المعتزلون» هو ضرب من الترويج، لجذب الآخر العادي من البشر، لكن فلاسفة مثل سقراط وأرسطو، كانوا يقضون فترات في عزلة تأملية، يفكرون فيها بعمق، بعيداً عن صخب الحياة.
وكذلك فعل الكتّاب والفنانون مثل هيرمان هسه الذي أظهر في روايته «سيدهارتا»، بأن العزلة يمكن أن تساعد الفرد، على اكتشاف ذاته، والوصول إلى التكامل الروحي. وكذلك فعل الرسام فان جوخ، كل هؤلاء وجدوا في العزلة بيئة خصبة للإبداع، حتى عالم مثل إسحاق نيوتن، جربها للتركيز على دراساتهم وأبحاثهم العلمية.
والعزلة الطوعيّة، رغم فوائدها، فإنها تحمل العديد من التحديات، مثل الشعور بالوحدة والاكتئاب، وصعوبة الحفاظ على العلاقات الاجتماعية. هنا تبرز أهمية التوازن بين العزلة والتفاعل الاجتماعي، إنه أمر ضروري.