منذ أن وضع محمد علي باشا القواعد الحقيقية لمصر الحديثة بعد توليه حكمها عام 1805، كان من أهمها تأسيس جيش مصري حديث وقوي، يحمي الدولة ومصالحها الحيوية في محيطها.

وبدأ «والي مصر» سياساته لبناء هذا الجيش، محاولاً في البداية الاستعانة بالعناصر غير المصرية من المماليك والشركس والأتراك وغيرهم، لبناء الجيش الجديد منهم، إلا أن كل هؤلاء فشلوا أن يكونوا عماد هذا الجيش.

وهنا عاد «الوالي» إلى حيث كان يجب أن يبدأ، إلى أبناء الشعب المصري، فأسس أول مدرسة حربية في مصر عام 1820، وفرض بعدها للمرة الأولى في تاريخها الحديث، التجنيد الإجباري عام 1923، لكي يتشكل الجيش في مصر فقط من أبنائها، ضباطاً وجنوداً، وليكون هذا هو التشكيل الثابت والمستمر للجيش المصري من لحظتها وحتى اليوم.

ولم يتوقف مسار «الوالي» نحو تشكيل الجيش القوي الحديث فقط عند تكوينه البشري من «خير أجناد الأرض»، بل كان لابد أن يمتد إلى تجهيز وتسليح هذا الجيش وفقاً لما تستلزمه القوة والتحديث.

فقد توالى وبسرعة ودقة كبيرين تأسيس وإنشاء البنية التحتية الصناعية واللوجستية الضرورية للقيام بهذا، فأنشأ مصانع للأسلحة والمدافع والبارود والذخائر والملابس والمعدات، وكذلك مدارس عليا متنوعة لتزويد الجيش بما يحتاجه من كفاءات وتخصصات، مثل مدرسة الفرسان ومدرسة المدفعية ومدرسة أركان الحرب ومدرسة الطب وغيرها.

منذ لحظة التأسيس الحديث هذه، وبتعاقب السنوات والأنظمة السياسية والظروف المحيطة بمصر وجيشها وصولاً إلى ثورة 23 يوليو 1952، ظل الجيش المصري محافظاً على تكوينه البشري الوحيد من أبناء مصر، وإن تفاوتت من فترة لأخرى أعداده وقدراته العسكرية.

وفور قيام «الضباط الأحرار» أبناء الجيش المصري بثورتهم هذه، أعلنوا أهدافها الستة، التي كان من بينها: «إقامة جيش وطني قوي». وبدا واضحاً أن هذه الأهداف تعني في مجموعها إقامة «دولة جديدة» كاملة بأسس وقواعد مختلفة عما سبق من عهود.

ومن بينها إعادة بناء الجيش المصري الوطني، ليعود قوياً، وخصوصاً بعد التجربة القاسية التي خاضها مع جيوش عربية أخرى في حرب فلسطين عامي 1948 و1949.

وبدأت فورياً محاولات قيادة ثورة يوليو الحثيثة لإعادة تسليح الجيش المصري من مصادر متعددة، غربية وشرقية، إلا أن الحصار الصارم على مصر من المعسكر الغربي أفشل معظم هذه المحاولات، وبصفة خاصة مع الجانب الأمريكي الذي رفض كل طلبات مصر لتزويد جيشها بالسلاح، متحججاً بدورها في دعم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ضد الجيش الإسرائيلي.

هنا كانت الانعطافة المصرية الكبرى نحو المعسكر الشرقي حينها وقائده الاتحاد السوفيتي، الذي استجاب لكل طلبات التسليح المصرية، وليعلن الرئيس جمال عبد الناصر في سبتمبر 1955 عما سمي «صفقة الأسلحة التشيكية»، والتي هي في حقيقتها أسلحة سوفيتية مرت إلى مصر عبر تشيكوسلوفاكيا، وشملت طائرات ودبابات ومدافع وعربات مدرعة وذخائر.

من هذه اللحظة وحتى اليوم، لم يتوقف قادة مصر، على تنوعهم واختلاف سياساتهم، عن السعي لتحقيق وتأكيد إقامة «الجيش الوطني القوي»، وهو ما ترافق مع وضوح وتعدد التحديات الإقليمية للأمن القومي المصري والأمن القومي العربي.

وخلال السنوات العشر الأخيرة، ومنذ تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي قيادة البلاد وجيشها، تكثفت وتعددت مساعي مصر لتحديث جيشها وتنويع مصادر تسليحه، لتشمل مروحة واسعة من كل دول العالم المعروفة بمختلف تخصصات تصنيع الأسلحة، ولتحصل مصر على أحدث ما لدى كل من هذه الدول، فضلاً عن التقدم الهائل الذي لحق بصناعة السلاح داخل مصر نفسها.

«إقامة جيش وطني قوي»، لم يكن يوم إطلاقه قبل ثلاثة أرباع القرن شعاراً براقاً للاستهلاك السياسي، بل كان استكمالاً لما بدأه «الوالي» محمد علي، وأصبح سياسة مصرية ثابتة لا تهتز طوال كل تلك السنوات، وهو ما أوصل «الجيش المصري الوطني» لأن يصبح خلال العقد الأخير وفق التصنيفات العالمية، الجيش الأقوى والأول في العالم العربي وأفريقيا، واحتل ما بين المرتبة العاشرة والخامسة عشرة على مستوى أقوى جيوش العالم.

إنها وقائع مستقرة للحفاظ على «الدولة المصرية»، وليست فقط رسائل لكل من يهمه الأمر.