العنف رافق تاريخ الإنسانية منذ مقتل هابيل على يد شقيقه قابيل، وكلاهما من أبناء آدم عليه السلام. ونجد في التاريخ وفي الحياة المعاصرة من هم ضدّ العنف كمبدأ، ولا يقبلون أيَّ تبريرٍ له حتى لو كان للدفاع عن النفس، ويصرّون في المقابل على استخدام أسلوب المقاومة السلمية كوسيلة لتحقيق أهدافهم، وكان السيد المسيح عليه السلام داعياً لهذا المبدأ. كذلك حرّر المهاتما غاندي الهند من الاحتلال البريطاني، بإصراره على هذا المبدأ وبأسلوبه اللاعنفي، وأيضاً قاد رجل الدين المسيحي الأميركي مارتن لوثر كينغ، خلال عقد الستينات من القرن الماضي، حركة الحقوق المدنية في أميركا، وقُتل وهو يدعو إلى المقاومة المدنية اللاعنفية. والملفت للانتباه، أنّ هذه النماذج الثلاثة من دعاة مبدأ اللاعنف، قد اختاروا العذاب أو الموت على يد خصومهم، كثمن لإصرارهم على الحقّ الذي يدعون إليه.

لكن سيرة الحياة البشرية لم تقتصر على سيرة ومبدأ هذه النماذج، حيث جرى «تقنين» العنف في أكثر من شريعة دينية ودنيوية، وأصبح التمييز قائماً بين العنف الإجرامي وبين عنفٍ مشروع تستخدمه الحكومات والجماعات والأفراد، ويدخل في إطار «حقّ الدفاع عن النفس» ضدَّ المعتدي المباشر، وفي حدود وضوابط تختلف تبعاً للمكان والزمان وكيفيّة فهم النصوص.

غير أنّ المفهوم الإسلامي بقي واضحاً تماماً في هذا المجال، حيث النصّ القرآني» وقاتِلُوا في سبيلِ اللهِ الذينَ يقاتِلونَكُم وَلا تَعتَدوا، إنّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدين (سورة البقرة ـ الآية ‬190)، ومنْ قتَلَ نفْساً بغيْر نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحْياها فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً (سورة المائدة ـ الآية ‬32).

وجاء في النصّ القرآني أيضاً، ما يؤكد على الاعتدال ورفض التطرّف» وكذلِكَ جعلناكُمْ أمَّةً وسَطاً لتكونوا شُهَداءَ على النّاس.. (سورة البقرة ـ الآية ‬143).

وفي النصّ القرآني أيضاً» وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمةً للعالمين (سورة الأنبياء ـ الآية ‬107)، ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى (سورة فاطر ـ الآية ‬18) ولا تستوي الحسَنةُ ولا السيّئةُ ادْفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ فإذا الذي بينَكَ وبيْنَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم (سورة فُصِّلت ـ الآية ‬34)، وتَعاونوا على البِرِّ والتَّقوى وَلا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان (سورة المائدة ـ الآية ‬2). إذن، في الإسلام مفاهيم وضوابط واضحة لا تقبل بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء (وهو مضمون المصطلح المتداول الآن «الإرهاب»)، مهما كانت الظروف والأعذار، حتّى ولو لجأ إلى هذا الأسلوب الطرف المعادي نفسه. وفي قول هابيل لقابيل (كما وردت في القرآن الكريم) حكمة بالغة لمن يعيها» ؟لئِنْ بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلني ما أنا بباسطِ يدِيَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إنّي أُريدُ أن تبُوْء بإثْمي وإثْمِكَ فَتكونَ من أصحابِ النّارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين (سورة المائدة ـ الآيتان ‬28 و‬29).

ورغم وضوح النصوص القرآنية، وكذا الشواهد في السيرة النبوية وفي الدروس المستفادة من سيرة الخلفاء الراشدين، فإنّ العالم الإسلامي شهد ويشهد «جماعات إسلامية» عديدة أباحت وتبيح أسلوب الإرهاب (قتل الأبرياء)، وتخلط بينه وبين استخدام العنف المسلّح المضبوط دينياً ودنيوياً. طبعاً، لا مقارنة عادلة هنا بين هذه الأساليب العنيفة باسم الإسلام، وبين ما قامت وتقوم به حكومات ومنظمات في مختلف أنحاء العالم، وفي أزمنة متعددة، ولا علاقة لها بالمسلمين. ولعلّ أكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك، ما قامت به إدارة بوش السابقة من إشعال حروب أميركية في العالم الإسلامي، وما تقوم به كل الحكومات الإسرائيلية من أعمال إجرامية، في أكثر من مكان، ضدّ الأبرياء والمدنيين. لكنْ من قال إنّ المبادئ والقيَم الإسلامية خاضعة للمقايضة أو لردود الفعل وفق أساليب الجاهلية في الثأر والانتقام من غير قيدٍ أو ضابطٍ دينيٍّ وأخلاقيّ؟!

إنّ التفسير السائد الآن بأنَّ الحرب الأميركية على أفغانستان والعراق، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ولأراضٍ عربية أخرى، هو المسؤول عن بروز ظاهرة «الإرهاب» من «جماعات إسلامية»، لهو تفسير سطحي لا يلغي احتلالاً ولا يضع حدّاً لهذه الظاهرة. فالعمليات الإرهابية التي حدثت في أميركا عام ‬2001، هي التي أعطت الذرائع والتبريرات لإدارة بوش من أجل البدء في تنفيذ أجندتها الدولية، التي احتلّ فيها الشرق الأوسط مرتبة الأولوية، لاعتباراتٍ إسرائيلية أكثر مما هي مصالح أميركية مباشرة في هذه الأجندة من حروب وأزمات.

ولم يختلف أسامة بن لادن، الذي تعاون خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، مع المخابرات الأميركية إبّان حقبة صراع «الجهاد الأفغاني» ضدّ النظام الشيوعي في كابول، عن النظام العراقي السابق الذي تعاون في الفترة نفسها مع الأميركيين لمحاربة الثورة الإيرانية بعد سقوط حكم الشاه.

ثمّ إنّ الجميع يدرك كيف تأسّست حركة طالبان في أفغانستان خلال حقبة الثمانينات، بدعمٍ وتسليحٍ وتشجيع من المخابرات المركزية الأميركية. فأصول «جماعات القاعدة وحركة طالبان» هي في الأساس «صناعة أميركية»، وهذه الجماعات وملحقاتها التي تمارس الآن، بأسماء إسلامية، العنف الإرهابي المسلّح في أكثر من بلد على المدنيين والأبرياء، لم تكن لتظهر أصلاً لولا تجربة «المجاهدين العرب الأفغان»، والتي لم تكن نشأتها مرتبطة بظروف محلية داخلية، كالفقر الاجتماعي أو غياب الديمقراطية السياسية، ولا بحالة الاحتلال الإسرائيلي أيضاً. فـ«الجهاد الإسلامي» ضدّ نظام كابول الشيوعي، كان يحدث بينما تجتاح إسرائيل أوّل عاصمة عربية (بيروت) وتقتل الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين.

ولا نعلم أيضاً أين كان «الزرقاوي» في الثمانينات (وهو الأردنيّ الجنسية الذي قُتل في العراق وكان زعيماً لجماعات القاعدة هناك)؟ ولِمَ لم يقاتل العدوَّ الإسرائيلي من قبل، من خلال الحدود الأردنية مع الضفة الغربية؟ ولِمَ لم يقم هناك بأعمال عسكرية ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيلي لأرضٍ كانت أصلاً تحت المسؤولية الأردنية وفيها القدس الشريف ثالث الحرميْن وأولى القبلتين؟!

إنّ ما حدث ويحدث في عددٍ من الدول، من قبل قوات حلف الناتو أو من خلال جماعات عُنفية دينية، من أعمال عنفٍ ضدّ المدنيين، لَهُوَ ممارساتٌ تخدم ـ منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي ـ الطروحات الإسرائيلية عن «الخطر الإسلامي القادم على الغرب» وعن «الصراع الحتمي« بين «الشرق الإسلامي» و«الغرب المسيحي». فإسرائيل هي الرابح الأوّل من التداعيات كلّها وعلى كلّ المستويات، بما في ذلك مساواة عمل من يقاوم احتلالها بالمنبوذ الآن من إرهاب.