رغم اختلاف الظروف والقضايا، في معظم أرجاء البلاد العربية، فإنّ واقع حال كلٍّ منها يسير في حقول ألغام تُهدّد من فيها بالتمزّق إلى أشلاء. هو واقع يدفع ببعض الناس لليأس والإحباط والسلبية والابتعاد عن أيِّ عمل عام، كما هو مبرّر للبعض الآخر من أجل الانتحار، والنحر للآخرين من خلال استخدام العنف المسلح ضدّ «الآخر» في الوطن الواحد.

في الحاضر العربي، هناك مزيج من الأسباب التي تؤدي إلى السلبيّة، وإلى مشاعر الإحباط على المستويين الوطني الداخلي والعربي العام. بعض هذه الأسباب مرتبط بعوامل خارجية ناتجة عن احتلال أو تدخّل أجنبي سافر، وبعضها محصّلة تراكمات داخلية من عناصر سوء الحكم وحالات الفساد والتمييز والفقر وتعثّر محاولات الإصلاح والتغيير السليم. وقد أصبحت هناك علاقة جدلية بين سوء الأوضاع في الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج، كما هي أيضاً العلاقة السببية بين عطب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية المعارضة فيها. فكلّما غابت في المجتمعات البنى السياسية والدستورية والاجتماعية السليمة، كلّما كان ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيدٍ من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد.

وللأسف، تساهم وسائل إعلام عربية في إشاعة مناخ السلبية والانقسام بين أبناء الأمّة العربية، من خلال كتابات أو آراء لأشخاص تحضّ على الانقسام والتفرقة بين مكوّنات الوطن الواحد، وتُشجّع على استبدال الهوية الوطنية والهوية العربية بهويات طائفية ومذهبية وإقليمية.

فكيف سيكون هناك مستقبل أفضل للشعوب والأوطان وللأمّة ككل، إذا كان العرب مستهلَكين إعلامياً وسياسياً بأمور تفرّق ولا تجمع، تشدّ أزر العدو ولا تردّ كيده؟!

أيضاً، هناك باعثٌ آخر للسلبيّة، سببه وجود «حالمين» يعيشون أوهاماً عن «السلام» مع عدوٍّ إسرائيلي لم يعرف إلاّ لغة الحرب والقتل والدمار، وآخرون يمارسون المقاومة لكنّهم يتحرّكون في أطر تحمل سمات فئوية!

وهناك في هذه الأمّة من يتحدّث عن «يقظة دينية»، بينما هي لدى البعض عودة إلى «أصولية جاهلية» تهتمّ بالقشور ولا تركّز على مبادئ الدين وقيمه. فهو تمزّقٌ الآن بين تطرّف سلبي لا مبالٍ، وآخر عُنفي جاهلي يمارس العنف ضد الأبرياء باسم الدين، وبما هو أصلاً من المحرّمات الدينية!

وتنذر تداعيات العنف الداخلي المسلّح، الجاري الآن في بعض البلدان العربية، بالتحوّل إلى حروب أهلية عربية يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي فقط، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.

فالأوضاع السائدة الآن في اليمن والسودان والصومال والعراق ولبنان ومصر وفلسطين، إضافةً إلى ما يحدث في بعض دول المغرب العربي، كلّها أزمات تحمل مشاريع كوابيس لن يكون أيٌّ منها محصوراً في دائرته المباشرة، بل ستكون المنطقة بأسرها ساحةً لها ولانعكاساتها. وما هو مشتركٌ بين هذه الأوطان ـ الأحلام، هو أنّ مواقع «الحالمين» جميعهم كانت تفتقر للأرض الوطنية الصلبة، وللوحدة الوطنية السليمة، وللبناء الدستوريّ السليم.

إذن، هو حاضر عربي سيئ، لكن ماذا بعد؟! هل الحل في السلبية والبكاء على الأطلال وفي ترداد: «ابْكوا كالنساء مُلكاً لم تحافظوا عليه كالرجالس؟ وهل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟ وهل يصلح الإحباطُ واليأس وابتعاد الناس عن العمل العام الأوطانَ والمجتمعات؟!

بشكلٍ معاكس، أجد أنّ الابتعاد عن العمل العام يزيد من تفاقم الأزمات، ويصنع الفراغ لمنتفعين ولمتهوّرين يملأونه بمزيدٍ من السلبيّات، يترك الأوطان والمجتمعات فريسةً سهلة للطامعين بها، ويضع البلدان أمام مخاطر الانشقاق والتمزّق، إذا انحصر وصف «الساسة» فيها على أصحاب مفاهيم وأطر وأساليب انشقاقية. طبعاً، ليس الحل في مزيد من التهوّر، ولا في إشعال الغرائز والانقياد للعنف المسلح الذي يُدمّر الأوطان ووحدة الشعوب، ويخدم دعاة التقسيم والتدويل لأزمات المنطقة.

الحل أساسه وقف حال الانهيار الحاصل في وحدة المجتمعات، وبناء البدائل الوطنية السليمة، على مستوى الحكومات والمعارضات معاً. فشعوبٌ كثيرة مرَّت في ظروف مشابهة، لكنّها رفضت الموت السريري البطيء، فنهضت من جديد وصحّحت أوضاعها وأرست دعائم مستقبل أجيالها.

فاليابان خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمَّرة ومهزومة، وعاشت تجربة استخدام السلاح النووي ضدّها، ورغم ذلك استطاعت أن تخرج من تحت الأنقاض وتعيد بناء ذاتها، لتكون الآن منافساً اقتصادياً لمن أذلّها في الحرب العالمية الثانية. وفي هذه التجربة اليابانية، برز التمسّك الياباني بالهوية الحضارية الخاصّة القائمة على نظام حكم ديمقراطي، وعدم الخلط بين استيراد العلم والمعرفة التقنية، وبين المحافظة على التراث الحضاري ـ الثقافي لليابانيين.

كذلك هي التجربة الألمانية، حيث لم ييأس شعب ألمانيا من إمكانات وحدته وعوامل تكوينه كأمَّة واحدة، رغم تقسيم ألمانيا لدولتين، وبناء ثقافتين متناقضتين فيهما لحوالي خمسين عاماً، وبناء «حائط برلين» الذي كان رمزاً لانقسام العالم بين شرق شيوعي وغرب رأسمالي، فإذا بشعب ألمانيا يدمّر هذا الحائط ويستعيد وحدته الوطنية والسياسية، ولا يقبل بتدمير مقوّمات وحدته القومية. وفي هذه التجربة، برز تمسّك الشعب الألماني بالبعد القومي المشترك، القائم أيضاً على صيغ ديمقراطية في الحكم، والذي استطاع تجاوز كل عوامل التفرقة المصطنعة التي زُرعت لنصف قرنٍ من الزمن وسَطَه.

أمّا تجربة جنوب إفريقيا، ففيها اتّضحت أهمية القيادة السليمة، وضرورة وضوح الهدف المركزي والإخلاص له، والإصرار على تحقيق الهدف، وعلى الأسلوب السليم من أجل الوصول إليه.

فمن يرى في الأمَّة العربية الآن أمَّةً متخلّفة، فليقارنْ مع دولة جنوب إفريقيا التي أعلن قائد تحرّرها من النظام العنصري، نيلسون مانديلا، أنّ نسبة الأمّية في بلده كانت عند إسقاط النظام العنصري، تفوق ‬70٪ من عدد السكان!

ومن يرى في اختلاف العرب «وحروبهم القبلية» مانعاً لوحدتهم المستقبلية أو لبناء مستقبل عربي أفضل، فليقارن أيضاً مع حال جنوب إفريقيا الذي لم يكن مجتمعاً منقسماً بين سودٍ وبيض فحسب، بل أيضاً بين قبائل سوداء متناحرة لعشرات السنين مع بعضها البعض.

ورغم كل عناصر الفرقة والتخلّف والأمّية في جنوب إفريقيا، فإنّ التمسّك بالهدف والإصرار على تحقيقه من خلال سبل سليمة وتحت قيادة مخلصة، حرّر هذا البلد الإفريقي من نظام عنصري بغيض، وحافظ على وحدة المجتمع، وأوقف الحروب الأهلية القبلية، وبدأ في بناء نظام اجتماعي ديمقراطي، فيه حصّة لكل أبناء المجتمع، رغم تباين اللون والعرق والمصالح!

ففي هذه النماذج المختلفة من تجارب العالم المعاصر، ما يعزّز الأمل بإمكان بناء مجتمع عربي أفضل، شرط الجمع بين حصيلة دروس هذه النماذج. إذ لا يمكن لأمّةٍ منقسمة على نفسها ولا تملك مشروعاً واحداً لنهضتها، أن تربح معارك قضاياها أو تحمل لشعوبها آمالاً بمستقبلٍ أفضل!