منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ‬2001، كان كثير من الأصوات الإصلاحية في العالم العربي يُذكًر بحقيقة مفادها أن الإصلاح الجاد سيكون في مصلحة الجميع؛ الأنظمة الحاكمة وشعوبها.

لم تكن الدعوة لإصلاحات حقيقية حيلة للانقلاب على الحكومات، ولم تكن من باب «حق أريد به باطل» لسحب البساط من تحت الحكومات، كما كان يخشى بعض أصحاب الأفكار «المتخشبة» من السياسيين العرب. لا أبداً، لم تكن كذلك. لقد كانت دعوات مخلصة من عقول كانت تراقب المشهد العام في العالم كله، وتدرك جيداً أن «الإدارة» بعقلية الأمس لن تقود إلا إلى مزيد من التراجع. وكانت تقرأ الواقع بعيون تشاهد بوضوح ما يجري في العالم من تحولات كبرى، لسنا ببعيدين عنها.

ولم تكن الحاجة لإصلاح حقيقي مسألة معقدة تحتاج لمراكز بحوث كي تكتشفها، لأن سوء الحال كان وما زال «سيد الموقف» في أكثر من بلد عربي. فالبطالة والفقر وسوء الإدارة وتردي الخدمات والفلتان الأمني وتفشي البيروقراطية واحتكار القرار وتجاهل مطالب الناس وإهانة الأصوات الناقدة والاستهتار بهموم المجتمع، كلها أمراض كانت وما زالت تنتشر ـــ عيانا بياناً ـــ في كثير من البلدان العربية.

لكن كثيرا من الأنظمة العربية رمى تلك المطالب عرض الحائط، وبعضهم ركب «الموجة» ـــ حيلةً ـــ وبدأ ينافس مؤقتاً دعاة الإصلاح في الحديث عن ضرورة الإصلاح، فقط للاستهلاك الإعلامي محلياً ودولياً، أو لمداراة الخارج.

وبعد أن خفت حدة النقد الخارجي، وقمعت أصوات المنادين بالتغيير الإيجابي، انتكس وعاد إلى حقيقته! فهذا المسؤول الذي تحدث بالأمس القريب للإعلام الأجنبي عن ضرورة الإصلاح في بلده، ها هو يكيل اليوم التهم ضد دعاة الإصلاح؛ من عمالة للخارج، وتأليب الخارج ضد الداخل، ومحاولة زعزعة «الأمن والأمان» الذي تعيشه بلاده! وهكذا «عادت حليمة لعادتها القديمة»، وأصبحت الدعوة للإصلاح تهمة سياسية ومبررا للإقصاء، وربما مدعاة للسجن!

بعض الأنظمة العربية يصنع أعداءه بنفسه. فمن حق الناس أن تكتب وأن تنتقد وأن تطالب، لكن أن يُعامل كل صوت ناقد في المجتمع كما لو كان عدواً للنظام، سيدفع المرء لأن يصبح عدواً حقيقياً للنظام!

ما ذا يضير لو استمعنا لمطالب الناس ونقد المثقفين ودعوات المصلحين؟ خذ قائمة المطالب الكبرى في أي بلد عربي، وستجد أنها لا تتجاوز الحد الأدنى من المعقول، بل إن تحقيقها ربما كان الضامن الأساس للاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي.

فمجمل تلك المطالب لا يتجاوز كثيراً تحسين الوضع المعيشي للناس، لضمان الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية. أعرف مثقفين وأساتذة جامعات في بلد نفطي وشديد الثراء تقاعدوا ـــ وبعضهم مات ـــ قبل أن يمتلكوا منزلاً يؤويهم وأسرهم. وأسمع عن قصص للرقابة والقمع يشيب بسببها الولدان، كأن يشك الرجل أن زوجته أو شقيقه مخبر سري يراقب أي كلمة عتب ضد النظام يقولها في لحظة انفعال! ونعرف أن ملايين البشر في العالم العربي يسكنون إلى جوار الأموات في المقابر وقرب المزابل. وندرك أن المواقع الإدارية المهمة في كثير من البلدان العربية، تعطى كمنحة للأقارب ـــ وهم غير مؤهلين ـــ من أولاد العم والخال وأصدقاء الوالد والأعمام. ونسمع عن أناس دخلوا السجن وعذبوا فيه لسنوات، من دون محاكمات عادلة ولأسباب «أمنية» خاوية. ونسمع يومياً في أغلب البلدان العربية، عن قصص الفساد المالي والإداري المرعبة، مما خلق الفجوة العميقة بين قلة قليلة تملك تقريباً كل شيء، وغالبية عظمى تعيش على الكفاف.

ونعرف جيداً أن الإنسان في كثير من بلداننا العربية، يعامل ك ـــ «مواطن» من الدرجة العاشرة في الوطن الذي ولد فيه وولد فيه أبوه وأمه وجده وجد جده! وبعد كل هذا، نستغرب لماذا تنتفض الشعوب؟ ونتساءل: لماذا تغضب الناس؟

ما يحدث اليوم من حراك كبير في العالم العربي، هو نتيجة طبيعية لوعي شبابي جديد متسق مع التحولات الكبرى في العالم. نحن أمام جيل جديد يتوق للتغيير، ويتواصل بالثانية مع ظروف جيله في الشرق والغرب، لكنه يعيش «قيوداً» سياسية وتنموية في محيطه القريب. هذا الجيل ورث عمن قبله عقودا من الغضب المتراكم، الذي سرعان ما ينفجر كالبركان الثائر ولا أحد يستطيع الوقوف في وجهه.

هكذا هو المشهد العربي اليوم، شئنا أم أبينا. ولهذا تصبح الدعوة ـــ من جديد ـــ لإصلاحات جوهرية حقيقية، مسألة «حياة أو موت» للأنظمة العربية التي لم تنفجر فيها «براكين الغضب» الشعبي بعد. وهذا الإصلاح المنشود يأتي عملياً لمصلحة الجميع، ولحماية ما تحقق من مكتسبات تنموية، وصمام أمان للمجتمعات من فوضى عارمة أو مستقبل مجهول.