اليومَ تنشَدُّ ذاكرة العرب إلى مصر 23 يوليو، مصر جمال عبدالناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية. فثورة 23 يوليو «المصرية» أخرجت مصر في العام 1952 من حالة العزلة التي فُرضت عليها بعد سقوط «دولة محمد علي»، ثمّ بسبب الهيمنة البريطانية والأجنبية على شؤونها السياسية ومقدراتها الاقتصادية، وبالتعاون مع شبكة مستفيدين من طبقة سياسية واجتماعية كانت تشكّل 0,5٪ من سكان مصر. كان ذلك هو أيضاً حال معظم البلاد العربية في منتصف القرن العشرين؛ فساد سياسي واجتماعي في الداخل، قائم على الاحتكار والإقطاع والاستغلال، في ظلّ هيمنةٍ واحتلال أجنبيين. وتزامن هذا الواقع مع بدء تنفيذ المشروع الصهيوني والأجنبي في فلسطين، القلب الفاصل بين مشرق الأمّة العربية ومغربها.
فالأمّة العربية كلّها كانت تعيش هذا الحال، رغم التجزئة التي حدثت لها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى واتفاقيات «سايكس بيكو» البريطانية ـ الفرنسية، بعد أن ورثت لندن وباريس ما كان تحت هيمنة الدولة العثمانية. ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، لم تكن حدثاً عادياً في بلد عربي صغير، بل كانت نموذجاً رائداً لحركة تحرّر وطني عام، ولتغيير اجتماعي وسياسي شمل المنطقة العربية، وترك آثاراً مهمّة على شعوب إفريقيا وأميركا اللاتينية ومعظم دول «العالم الثالث» التي كانت تعيش أيضاً ظروفاً مشابهة لأوضاع البلاد العربية.
ولم يحدث هذا الاهتمام العربي والتأثّر الدولي بثورة 23 يوليو لمجرّد قيامها، بل حدث من خلال قرار عبدالناصر بتأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي: البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، على مصر عام 1956. فهذه كانت معركة الإرادة الوطنية ضدّ الهيمنة الأجنبية، ومعركة التحرّر من الاستعمار والاحتلال، وتلك آنذاك كانت قضيّة دول «العالم الثالث» كلّه.
كذلك كان تجاوب الشعوب العربية مع قيادة ثورة 23 يوليو، حينما أطلق قائدها جمال عبدالناصر الدعوات لتضامن الأمّة العربية ووحدة شعوبها، ولتصحيح واقع فرضه المستعمر لكي تسهل هيمنته على ثروات ومقدّرات الأمّة العربية، وعلى موقعها الجغرافي المهم.
إنّ ثورة 23 يوليو كانت «مصرية» المنطلق، لكنّها كانت «عربية» في قضاياها ومعاركها وآثارها السياسية والفكرية والاجتماعية، وهذا بحدّ ذاته كان كافياً لكي يتمّ التآمر عليها وعلى قيادتها، من أجل إعادة «مصر المارد» إلى «زجاجة العزلة» عن محيطها الجغرافي.
صحيحٌ أنّ تجربة ثورة 23 يوليو تحت قيادة ناصر، كغيرها من الثورات والتجارب الكبرى، نجحت في أمور وتعثّرت في أخرى، لكن قيمتها الأهم كانت فيما افتقده العرب خلال العقود الماضية من حيويّة وثقل الدور المصري في القضايا العربية الكبرى، وفي مقدّمتها الصراع العربي - الصهيوني.
فمصر عبدالناصر رفضت، رغم هزيمة 1967، استعادة سيناء مقابل تخلّي مصر عن دورها العربي في الصراع مع إسرائيل. وخاضت مصر عبدالناصر «حرب الاستنزاف» على جبهة قناة السويس لمدّة عامين، وهيّأت الجيش المصري لمعركة العبور التي حدثت في العام 1973، وحقّقت تضامناً عربياً فاعلاً على قاعدة قرارات قمّة الخرطوم في العام 1967، ممّا أدّى إلى تماسك الأمّة العربية وانتصارها العسكري في حرب أكتوبر 1973. كان ناصر يردّد «القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء»، و«لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة».
لقد حرص جمال عبدالناصر، كردٍّ على هزيمة 1967، على أن يوقف أيّة صراعات عربية - عربية، وعلى أن يبني تضامناً عربياً فعالاً، فسحَب القوات المصرية من اليمن، وصالح كلَّ من عاداه من العرب، وأكّد أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وأنّ هذا الصراع يقتضي بناء تضامنٍ عربيٍّ فعّال، يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، ويوقف كلّ الصراعات العربية - العربية والمعارك الهامشية داخل المجتمع العربي.
لكن حدث الانقلاب على دور مصر التاريخي يوم جرت معاهدة السلام مع إسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد، فكان ذلك بداية عصر الانحطاط العربي المعاصر، وما جرى فيه من حروب أهلية عربية وصراعات على الحدود بين العرب، رافقتها تسويات وتطبيع مع إسرائيل، وتعزيز للتواجد العسكري الأجنبي في المنطقة. اجتاحت إسرائيل معظم لبنان عام 1982 واحتلّت أوَّل عاصمة عربية، بيروت، ثم دمّرت بعد ذلك الكثير في لبنان وفلسطين، وقتلت الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين في أكثر من حرب وعدوان طيلة الثلاثين سنة الماضية!
في ظلِّ قيادة مصر 23 يوليو، كانت المنطقة العربية تشهد تحرّراً من استعمار بريطاني وفرنسي امتدَّ من عدن إلى الجزائر، بينما في حقبة «كامب ديفيد» وما بعدها استعادت الهيمنة الأجنبية بمختلف أشكالها.
في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كانت الانقسامات والصراعات في المنطقة العربية تدور حول الأفكار والسياسات، أمّا ما بعد ذلك فقد تحوّلت إلى صراعاتٍ وانقسامات على معايير طائفية ومذهبية وإثنية، تعيشها المنطقة العربية بأسرها، دون مرجعية سليمة واحدة للأمّة.
هذه هي أسباب انشداد كلّ العرب إلى ما يحدث في مصر الآن. ففي مصر كانت بداية الانهيار العربي المتواصل منذ زيارة السادات لإسرائيل، ومن مصر ستكون بداية النهضة العربية المنشودة.
شباب مصر يثورون لتغيير أوضاع دستورية واجتماعية مصرية، لكن في ذلك أمل كبير لكلِّ العرب بتغيير واقعهم أيضاً.
فلقد تحطّم جدار الخوف النفسي الذي كان يفصل بين المواطن وحقوقه في الوطن، وتمت إعادة الاعتبار لدور الناس في عمليات التغيير المطلوبة في المجتمعات، بعد أن كانت حكراً في السابق إمّا على المؤسسات العسكرية أو بالمراهنة على التدخّل الخارجي.
إنّ أهمّية ما يحدث الآن، هي إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير، وبعدم الاستسلام لليأس القاتل، لإرادة وأحلام الشعوب بمستقبل أفضل.
إنّ العرب اليوم يستذكرون مصر 23 يوليو، مصر جمال عبدالناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية، وهم كلهم أمل أن تعود مصر إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي الإيجابي في الأمة العربية وقضاياها العادلة.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن