ليس من المستغرب ما يعيشه العالم العربي اليوم من تحولات كبيرة، بدأت في تونس ثم مصر، واليوم في ليبيا وغداً في مكان آخر. لكن المستغرب أن هذه الموجة، بما فيها من تعقيدات، تأخرت انطلاقتها كثيراً في البلاد العربية. فمن غير المنطقي أن يبقى العرب وحدهم خارج التاريخ، ولا يمكن أن تبقى الأوضاع المتردية في البلاد التي تعيش عصر الثورة، هي «سيدة المشهد».
وإذا كان الاستبداد قد ساد عربياً لعقود طويلة، تارة تحت شعارات الدين وتارة أخرى تحت قبضة المستعمر، وثالثة باسم محاربة الاستعمار أو وحدة الأوطان، فإن تقنيات العصر اليوم جعلت المجتمعات العربية في قلب الحدث. لا يستطيع أي نظام في العالم اليوم أن يخدع شعبه، أو يقمع وعي شعبه، أو يصادر عقل شعبه، أو يبتكر له فزاعات ترعبه وتثنيه عن التوق للحرية والمشاركة، ناهيك عن رفض الظلم والجور والمعاملة المهينة.
«الشارع العربي» الآن يقود التغيير في محيطه بنفسه، وقد أدرك أن بإمكانه فعل المستحيل إن كسر حاجز الخوف، وقد فعل. وهذا «البركان» الذي تتطاير حممه اليوم في كل الاتجاهات، ظل يغلي، تحت الأرض، عقوداً طويلة من الزمن، قبل أن ينفجر بين ليلة وضحاها.
إن الغضب العربي الشامل ليس وليد صفعة مهينة تلقاها التونسي محمد بوعزيزي، على يد شرطية تونسية يوم 17 ديسمبر الماضي، وليس فقط لأن الناس لا تجد ما تأكله أو تلبسه. لكنه وليد منظومة من الإقصاء والاحتكار والكبت والظلم والعوز وقلة الحيلة. وكل أسباب هذا «الإنفجار» سبق وأن كتبت في عشرات التقارير التي تعنى بالتنمية الإنسانية في العالم العربي، وفي مجلدات لباحثين من داخل العالم العربي وخارجه. لكن من يقرأ مثل هذه الجهود في الأنظمة العربية المستبدة؟ أليست هي نفسها من أطلق تهم الخيانة والعمالة وخدمة «الأجندات» الخارجية، ضد الباحثين والإصلاحيين الوطنيين الذين حذروا من «الانفجار»؟
فعلاً؛ إن ربك يمهل ولا يهمل. فتمادي الجهلة من صناع القرار في كثير من الأنظمة الاستبدادية العربية، في إقصاء أصوات العقل والعلم في بلدانهم، عمّق الفجوة بين الناس والحكومات، وضاعف من حدة الحنق والغضب، حتى وقعت الفأس في رأس الاستبداد! وهذا التعالي والنظرة الفوقية في التعاطي مع هموم الناس، أثبت للمجتمعات الثائرة أنه لا أمل إلا بالتغيير الساحق والجذري. فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ وكيف فهمتم حرص الآباء والأجداد على استمرار الكيانات السياسية القائمة، من أجل وحدة الأوطان ومواجهة مخاطر التشتت والتشرذم، كما لو كان ليس إلا خنوعاً وضعفاً وقبولا بالاستعباد والاستبداد؟
نحن في العالم العربي لسنا جنساً مختلفاً عن بقية خلق الله، في الشرق أو في الغرب. ولسنا كائنات تعيش في كوكب غير الأرض. ولهذا فنحن جزء من التجربة البشرية، تلك التي أيقنت، بعد قرون من الصراع والحروب والدمار، أن الحل في قيام دول المؤسسات لا دول العصابات. وعرفت أن المستقبل هو لمن يقدم تحديات الغد على جدال الأمس، وأن البقاء لمن يقدم مصالح بلده على مصالحه الخاصة. وهي اليوم تدرك أيضاً أنها تدخل عصراً جديداً بامتياز، تكسر فيه كل جدران برلين التي عزلته طويلاً عن هموم مجتمعه وقضاياه وطموحاته.
ولك أن تسأل: كيف لا تغضب الناس وهي تعيش الذل في أوطانها ليل نهار؟ وكيف تصبر على حالها وهي تقضي ثلاثة أرباع أعمارها في تسديد ديون البيت وتعليم الأبناء وعلاج الأقارب؟ وكيف لا تغضب وهي ترى هذا «الهدر» المخيف في مداخيل الأوطان وثرواتها؟ وكيف لا تثور وهي تعيش التهميش والإقصاء كما لو كانت لاجئة في أوطانها؟
إن كل الأحداث المبهرة التي يعيشها العالم العربي منذ 17 ديسمبر الماضي، قد تبشر بعصر نهضة جديد تبدأ بانتصار الإنسان العربي على الخوف من المجهول، نهضة تقدم الفكر على السياسة، ومصالح المجتمع على أي مصلحة فئوية. إنها النهضة التي ستهيئ أبناء المنطقة للعيش في عصرهم، والتعامل مع العالم بكل ثقة واعتزاز بما تحقق من منجز. وما غلاف مجلة التايم الأخير، الذي حمل صور شبان مصريين أشعلوا فتيل الثورة في مصر، إلا بداية جديدة لنظرة مختلفة من العالم كله للجيل العربي القادم، جيل كسب احترام أهله، فاحترمه العالم ورفع له قبعة الإعجاب والتقدير!
نعم! أنا ـ أخيراً ـ متفائل! وكيف لي ألا أتفاءل؟