ينظر الأميركيون، الذين اعتقدوا يوماً ما أنهم امتلكوا المستقبل، بترقب عبر المحيط الهادئ، إلى الصين الناهضة التي تنشئ أكبر شبكة قطارات فائقة السرعة في العالم، وتسيطر على الصناعة بالاستعانة بالطاقة الشمسية، وتقدم طلبة هم الأعلى تحقيقاً للدرجات الدراسية في نتائج الاختبارات على مستوى العالم.
بالطبع لا تزال الصين لديها معدل كبير في الفقر، ومعدل دخل للفرد أقل من عُشر نظيره في الولايات المتحدة. ولكن في الوقت الذي تتفوق الصين بشكل متسارع، فإن أميركا سوف تستمر في التراجع ببطء، إذا لم تتخلص من العادات والسياسات والممارسات التي كانت تتبناها على مدار العقود الماضية. فما الذي يمكن أن تقوم به أميركا لكي تعود مجدداً إلى المسار الصحيح؟
يقتصر الاقتصاديون إلى حد كبير على ثلاثة عوامل رئيسية، وهي رأس المال والعمالة والإنتاجية، لدى تفسيرهم كيف ولماذا ينمو اقتصاد بلد ما. الصورة للاقتصاد الأميركي في ضوء الإطار المكون من ثلاث نقاط، واضحة بشكل مناسب.
فيما يتعلق بمسألة رأس المال، عقب انقشاع الأزمة المالية، تظل أميركا مكبلة بأعباء الديون الضخمة (حوالي 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، علاوة على العجز النقدي الذي يتخوف الكثيرون من استدامته، والذي يدور حول 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وبعيداً عن حقيقة أن مؤسسات عالمية مثل صندوق النقد الدولي، تشير إلى أن الدين الأميركي سوف يرتفع.
فإن هناك مؤلفات يعتد بها تدور حول كيف أن مثل هذه المستويات من الدين يمكن أن تكون بمثابة عامل عرقلة للنمو الاقتصادي في المستقبل المنظور. بعد ذلك، تأتي مسألة العمالة. فالكثير من الأميركيين يألفون مسألة التحولات التي تعمل على تغيير التركيبة الديمغرافية للاقتصاد.
ومثل هذه التغيرات تقود إلى وجود سكان مسنين، في الوقت الذي يتوقع أن يزيد عدد السكان الذين تصل أعمارهم إلى 65 عاماً أو أكثر في الدول الصناعية الغربية، بنسبة 250٪، بما يزيد معاشات التقاعد وتكاليف الرعاية الصحية بشكل ملحوظ، ما بين عامي 2010 و2050.
في نهاية المطاف، هناك مسألة الإنتاجية، التي يعتقد الاقتصاديون أنها تفسر ما لا يقل عن 60٪ من أسباب نمو دولة ما دون أخرى. وتظهر بيانات المكتب الأميركي لإحصاءات العمالة، أن الإنتاجية عبر معظم القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة، حافظت على مسار ثابت من النمو خلال العقود الأخيرة. إلا أنه، بالنظر إلى المستقبل، إذا لم يتغير أي شيء آخر، فإن هناك مخاطرة حقيقية بأن ترى الولايات المتحدة تراجعاً في إنتاجيتها، خاصة في قطاعات الابتكار والتكنولوجيا الرئيسية..
وبحسب تقييمات برنامج اختبارات الطلبة «بيسا» التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فإن مستوى الطلبة الأميركيين يتراجع عالمياً في مجالي الرياضيات والعلوم، وهما المادتان نفسهما اللتان تحتاجهما أميركا للحفاظ على تنافسيتها في هذه القطاعات المهمة على الصعيد الاقتصادي.
لكن أميركا تعاني ضعفاً آخر أكثر جوهرية، ألا وهو محاولاتها لعلاج علتها الاقتصادية المتمثلة في الميل إلى التركيز على المشكلات التكتيكية قصيرة الأمد، مع تكريس صياغة السياسة نسبياً لاعتبارات طويلة الأمد وهيكلية. ومن المؤكد أن الإدارة قصيرة الأمد للأمور المتعلقة بالديون والعجوزات، لها أهميتها إلى حد كبير في التخطيط للرخاء الاقتصادي المستقبلي المستدام.
وبالطبع كان هناك اعتراف ضمني بالقدر الضخم من التحديات التي تواجهها أميركا على الأفق الأطول، حيث كان خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤخراً بشأن حالة الاتحاد، أحدث مثال على ذلك. وعلى أية حال، تظل المخاوف الحقيقية بشأن التزامات التقاعد والبنية التحتية المتهالكة.
إننا نعرف المشكلات بشكل عام، ولكن أين هي السياسات النشطة لضمان، على سبيل المثال، ألا تترنح أميركا تحت ثقل أزمة الرعاية الصحية التي سوف تواجهها خلال العقود القليلة المقبلة؟
تشير التقديرات إلى أنه خلال الفترة ما بين عامي 2010 و2050، سوف تكون هناك زيادة نسبتها 164٪، في أعداد السكان المصابين بالسكري، وستكون أكبر زيادة بين المصابين بالنوع الثاني من هذا المرض. وعلى مدار السنوات الخمس المقبلة، فإن 60٪ من المصابين بالسكري في الاقتصادات المتقدمة، سوف يعانون من أكثر من حالة مرضية على المدى الطويل، تشمل أمراض القلب المزمنة، أو الأزمات الصدرية أو الاعتلالات العضلية أو اضطرابات الشرايين أو المضاعفات العصبية.
وتقدر جمعية الزهايمر الأميركية أنه خلال الفترة الزمنية نفسها، يمكن أن تصل التكاليف المصاحبة للمرض إلى تريليون دولار (وهو ما يعادل 7٪ من الناتج المحلي الإجمالي السنوي في أميركا تقريباً، بتكاليف اليوم بالنسبة لمرض واحد). إذاً، كيف يمكن لأميركا أن تنتصر استناداً إلى هذه الخلفية؟
بالطبع، يتعين على أميركا أن تحافظ على تنافسيتها عالمياً، ومن أجل تحقيق ذلك، عليها أن تكرس قدراً كبيراً من رأسمالها السياسي ومواردها الاقتصادية للتعامل مع القيود الهيكلية الأكثر قسوة على ما يبدو. تعتبر هذه هي القضايا السياسية التي يفضل الساسة إطلاقها في المستقبل.
وتركها لصانع السياسة المقبل، مثل التعليم والبنية التحتية وكفاية الطاقة. ولكن إذا كانت هناك فرصة حقيقية لتحول اقتصادي مستدام بالنسبة للولايات المتحدة، فإن هذه القيود الهيكلية يجب أن تأخذ الأولوية على قمة الأجندات المزدحمة للسياسة. إن المفهوم القائل إن الدولة ينبغي أن تدفع الناس للقياس بالأمور التي يتعين عليهم إنجازها على أي حال، لا شك أنه يبدو للبعض مفهوماً متطرفاً، أو حتى مفهوماً بعيداً عن الإنصاف. ولكن خلاصة الأمر هي أن أميركا ستظل في طريق خطر، قوامه التراجع الاقتصادي طويل الأمد، ما لم تهتم على نحو نشط بإعادة تنشيط مهارات سكانها، وإعادة توجيه رأسمالها نحو الاستثمار البناء، وليس نحو الاستهلاك الطفيلي.