لا يمكن لأي شخص عاقل أن يقلل من شأن الخراب والمأساة والمعاناة التي سببها زلزال اليابان المهول. لكن إذا نظر المرء إلى ما وراء كل هذا الدمار، سيرى بارقة أمل. فالحاجة لإعادة بناء رقعة كبيرة من أراضي اليابان، سوف تخلق فرصاً هائلة للنمو الاقتصادي المحلي، خاصة في قطاع تقنيات الاقتصاد في استهلاك الطاقة، كما سيسهم في تحفيز الطلب العالمي وتسريع دمج شرق آسيا.
تتخبط اليابان منذ سنوات في حالة من الركود، رغم برامج التحفيز الاقتصادي الضخمة التي أقرتها الحكومة، وتسهيل منح القروض بمعدلات فائدة تقارب الصفر، وذلك يعود، ببساطة، إلى أنه في ذلك الاقتصاد الناضج المتطور، لم يكن هناك ما يكفي من الطلب لتوليد العائدات الكافية لاجتذاب الاستثمارات الخاصة. ومن هنا كانت نشأة كل تلك الجسور والمشاريع العبثية التي لا داعي لها، وتنفذ فقط في محاولة لكسر الركود.
وبهذا الزلزال الذي وجه ضربة قوية للاقتصاد الياباني الناضج، فعلت الطبيعة ما لم تستطع السياسات المالية والبنك المركزي فعله. فالآن هناك حاجة حقيقية لبناء عدد لا يحصى من الجسور، وستحتاج اليابان إلى بناء مدن ومناطق بأكملها، بدءاً من المساكن والمباني التجارية إلى الطرق والسكك الحديدية، شبكات المعلومات، شبكة الطاقة، وحتى نظام الإنذار المبكر من تسونامي الذي يجب تحديثه بالكامل لمواكبة العالم الرقمي، إذ يجب دمج الصفحات الإلكترونية، مثل «تويتر» و«فيسبوك»، في ذلك النظام الذي لا يزال يعتمد على التقنيات القديمة، مثل صفارات الإنذار والرسائل الإذاعية أو التلفزيونية لتحذير الناس (ذكرت تقارير أنه في ساعة معينة يوم الزلزال، وصل معدل رسائل التويتر الخارجة من طوكيو 20 رسالة في الثانية).
وبطبيعة الحال فإن عملية إعادة الإعمار الهائلة تلك، ستولد ثروات جديدة سينتج عنها تدفق السيولة إلى جيوب اليابانيين، لشراء السلع والاستفادة من الخدمات العالمية. وسوف يجتذب هذا الطلب الناشئ أموالاً طائلة من المستثمرين الباحثين عن فرص من كل حدب وصوب، من صناديق الاستثمار الخاصة إلى البنوك الأميريكية والصناديق السيادية للصين. ففي لقاء في هونغ كونغ قبل أسبوعين، اشتكى لي أحد أكبر المستثمرين الآسيويين من قلّة الصفقات الجيدة في آسيا خارج حدود الصين.
والصين نفسها تمتلك فوائض مالية ضخمة جداً، لدرجة أنها لا تعرف ماذا تفعل بها. ولذلك فمن شأن الاستثمار الأجنبي المباشر من جانب الصين، في عملية إعادة إعمار اليابان المثقلة بالديون، أن يدمج بين ثاني وثالث أكبر اقتصاديين في العام، بطريقة تحقق ما فشلت فيه كل وسائل التصالح السياسي في الظروف العادية.
وأعظم الفرص المتاحة على هذا الصعيد، تتمثل في بناء مدن وبنى تحتية جديدة بالكامل، تكون أكثر تطوراً وذكاءً واقتصاداً في استهلاك الطاقة. واليابان تختلف عن هاييتي وحتى عن الولايات المتحدة، من حيث أنها استطاعت رغم ركودها الطويل، أن تحتفظ بتفوقها العالمي في البراعة الهندسية.
واليابان تتميز بموقع فريد، يجعلها مؤهلة دون كل البلدان الأخرى، للمضي في مسيرة انتعاش خضراء. فبينما كان العالم منشغلاً بالتركيز على خطر التطرف الإسلامي أو معجزة النمو الصيني، كانت اليابان منغمسة في ثورة هادئة، باعتبارها الحاضن الأول لتقنيات المستقبل ذات الكفاءة العالية في استهلاك الطاقة.
وتشهد اليابان اليوم 50٪ من إجمالي ناتج العالم من الكهرباء المولدة بالطاقة الشمسية، وتستهلك لإنتاج كل طن من الفولاذ، طاقة بمعدلات أقل بـ20 من الولايات المتحدة وأقل بـ50 من الصين. وتكثر في اليابان الابتكارات على هذا الصعيد، بدءاً من احتجاز «طاقة الجليد».
وشاشات البلازما الاقتصادية في استهلاك الطاقة، وانتهاء باستغلال الطاقة الحركية للجسور التي تتأرجح عندما تمر عليها السيارات. وأبرز مثال عملي على تلك التقنيات، هو المبنى الذي أقيمت فيه قمة الثماني في «ليك تويا» عام 2008، والذي تم تبريده بالكامل بواسطة الثلج المخزن في حجرات معزولة حرارياً، بدلاً من استخدام التكييف الهوائي.
وكما يعرف الجميع، فإن اليابان تعتبر أكبر مصنع ومصدر للسيارات الهجينة، التي ربما تكون أشهرها تويوتا بريوس. وقد طورت هوندا أيضاً سيارة تعمل على خلية وقود هيدروجيني متطورة، وهي الآن تستعد لمرحلة الإنتاج التجاري. كما أطلقت شركة كوماتسو أول آلية ثقيلة هجينة في العالم، وهي عبارة عن حفارة وزنها 20 طناً، تستخدم في مواقع البناء في أنحاء آسيا.
صحيح أن المجتمع الياباني يبدو في ظاهره مجتمعاً استهلاكياً ويحب مسايرة الموضة في كل شيء، لكن تحت ذلك السطح لا تزال تسود وعلى نطاق واسع، ثقافة الاقتصاد في النفقات بين العائلات ذات الموارد المالية المحدودة.
وهذه النزعة الاجتماعية التي كانت تربة خصبة لتطوير التكنولوجيا الخضراء، ستتعزز بلا شك بعد الأضرار الجسيمة التي ألحقها الزلزال بمفاعلات اليابان النووية، إضافة إلى الهزة الاقتصادية التي أحدثها ارتفاع أسعار النفط نتيجة للآثار المتجمعة للانخفاض المفاجئ في قدرات التكرير، بسبب تضرر المنشآت اليابانية والحرب الأهلية الليبية التي أطلقت شرارتها الثورة العربية (بالحديث عن «تأثير الفراشة» في نظرية الفوضى؛ من كان يتصور أن الهزات السياسية الارتدادية الصادرة عن بائع تونسي ضحى بنفسه، ستلتقي بالهزات الارتدادية الجيوفيزيائية الصادرة عن انزلاق لوح تكتوني باسفيكي لتسبب مجتمعة أزمة طاقة أخرى؟).
ليس بوسع أحد التكهن أو التحكم في غضب الطبيعة أو الاضطرابات السياسية على الطرف الآخر من الكوكب، لكن كما يقال «ربم ضارة نافعة». حالما تزال الأشلاء والركام من المناطق المنكوبة، ستثبت اليابان مرة أخرى كما فعلت في الماضي، أنها أقدر من معظم الأمم الأخرى على بناء مستقبل أفضل.