الأمَّة العربية الآن، في لحظةٍ زمنية كتلك التي تفصل الليل عن النهار أو العكس. فما يحدث فيها قد يكون مطلع فجرٍ جديد ونهارٍ واعد بنور شمس ساطعة، أو يكون بداية ليلٍ تلبس فيه الأمَّة ثوب الظلام بعد معاناةٍ طويلة من يوم الظالمين. فالوجه الإيجابي المشرق في الأمَّة، هو ما يحدث فيها من إصرار على التغيير والإصلاح وعلى طي صفحات الظلم والاستبداد والفساد. لكن الوجه الآخر السلبي، أنّ ذلك التحرك الشعبي كلّه يحدث على أرضٍ عربية ممزّقة منذ قرن من الزمن، وبين شعوب منقسمة على نفسها وطنياً ودينياً.
فالأمل بغدٍ أفضل لا يرتبط بوجود ثورات وحركات تغيير فقط، بل الأساس هو مرسى هذا التغيير ونتائجه. فهل الديمقراطية السليمة، القائمة على وحدة وطنية شعبية وعلى ترسيخ الولاء الوطني وعلى الهويّة العربية وعلى التمسّك بوحدة الكيان الوطني، هي البديل لأنظمة دكتاتورية، أم سيكون بديلها صراعات أهلية وتقسيمات جغرافية وتدويلا أجنبياً؟ وما هي ضمانات حدوث التحوّل نحو الديمقراطية السليمة، طالما أنّ المجتمعات العربية موبوءة بأمراض التحزّب الطائفي والمذهبي والإثني؟ وطالما هناك أيضاً مشاريع فتنة وتقسيم وتدويل لدول المنطقة؟!
أمام العرب في مطلع هذا العام، نماذج إيجابية وسلبية تحدث على الأرض العربية: فالسودان خسر جنوبه بعد حربٍ أهلية وتدويلٍ لأزماته وتدخّلٍ أجنبيٍّ سافر، في ظلّ عجزٍ رسمي عربي. ثم جاءت ثورتا تونس ومصر لتشعلا الأمل بمستقبل عربي أفضل، من حيث أسلوب التغيير الذي حدث في هذين البلدين، وسلمية التحرك الشعبي، والبعد الوطني التوحيدي فيهما. وها هي الأمَّة العربية تشهد الآن انتفاضاتٍ عربية في بلدان أخرى، بعضها مُهدَّد بخطر التقسيم وبعضها الآخر بخطر التدويل، والكل بمخاطر الحروب الأهلية والتدخّل الأجنبي.
وهناك أسئلة كثيرة تدور الآن في الأذهان عن غايات وأبعاد الطروحات والممارسات الطائفية والمذهبية أو الإثنية التي تسود، بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي الحديث، عدّة بلدانٍ عربية. ويكبر حجم الأسئلة حينما نرى مثلاً هذا التركيز الإعلامي والسياسي في المنطقة، على تفسير أي حدثٍ فيها بشكلٍ طائفي أو مذهبي، ثمّ توزيع المناطق والمنظمات والحركات السياسية العربية على قوالب طائفية ومذهبية.
فاستمرار التداعي في الانقسام عربياً، ومواصلة الفرز الطائفي أو الإثني بين مجموعات الشعب الواحد في كلِّ بلدٍ عربي، هو مسؤولية عامة تشمل المجتمع ككل، ويحمل المخاطر للأجيال المقبلة. إنّ المغامرة التي يقودها البعض في بلدانٍ عربية متعدّدة، من أجل تحويل الطوائف والمذاهب والأقليات العرقية إلى كياناتٍ سياسية منعزلة، لن يكون مصيرها إلا نحر الطائفة أو المذهب أو الأقلية العرقية. إنّ التقسيم الجغرافي والسياسي يقيم الحواجز والحدود بين الدول بالحبر الأحمر، لكنّه لا يلغي وحدة الشعوب، بينما التقسيم الديني والعرقي يمزق الناس أنفسهم، ويجعل الحدود بينهم بالدم الأحمر. فكيف يمكن وقف هذا الانحدار نحو مزيدٍ من الشرذمة للأوطان والشعوب العربية، وتجنّب الوقوع في الأفخاخ المرسومة للمنطقة؟
إنّ الإجابة عن ذلك لا تتوقّف على فردٍ أو جماعة أو طائفة بأسرها، وإنّما المسؤولية تشمل العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، وفي كلّ بقعةٍ في العالم يعيش عليها أبناء البلدان العربية. فالمسؤولية تبدأ عند كلّ فرد عربي، وهي مسؤولية كلّ عائلة في أن تفرِّق خلال تربية أولادها، بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه. وهي مسؤولية كلّ طائفة أو مذهب، أن يدرك أتباع هذه الطائفة أين تقف حدود الانتماء إلى طائفة، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه، بل ربّما من الوجود على أرضه. والمسؤولية تشمل أيضاً الأنظمة كلّها والمنظمات العربية كلّها، التي استباحت لنفسها استخدام الاختلافات الدينية أو العرقية في صراعها مع بعضها البعض، أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنيّة لها. وعلى الجميع، أيضاً، تقع مسؤولية فهم ما يحصل، بأسبابه وأبعاده السياسية، وليس عن طريق المعالجة الطائفية والمذهبية لتفسير كل حدثٍ أو قضية أو صراع . إنّ البناء الدستوري السليم، الذي يحقّق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، ويضمن الحرّيات العامة للأفراد والجماعات، هو السياج الأنجع لوحدة أي مجتمع. كذلك، فإنّ المعرفة الأفضل لكلٍّ من الدين والهوية العربية، والعرض السليم لهما من قبل المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، سيساهم بلا شك في معالجة الانقسامات الطائفية والعرقية في المنطقة العربية. وليكنْ المعيار دائماً، في كلِّ كلمةٍ أو عمل أو حركةٍ أو صراع، هو التساؤل عمّا وعمّن يخدم ما نقوله أو ما نفعله، وإلى أين يمكن أن نصل؟ ففي المعارك والصراعات تكون الأعمال بالنتائج، وليس بالنيّات!
صحيح أنّ هناك قوى خارجيّة تعمل على تأجيج الصّراعات الدّاخليّة العربيّة، وأنّ هناك مصلحة أجنبيّة وإسرائيليّة في تفكيك المجتمعات العربيّة، لكن العطب أساساً هو في الأوضاع الدّاخليّة التي تسمح بهذا التدخّل الخارجي، الإقليمي والدولي. ولا يجوز إلقاء المسؤوليّة فقط على «الآخر» الأجنبي أو الإسرائيلي، في ما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة وعرقيّة. فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة، فيه تثبيتٌ لعناصر الخلل والضعف وللمفاهيم التي تغذّي الصّراعات والانقسامات. ويحصل الضعف عادةً في الولاء الوطني حينما تنعدم المساواة بين المواطنين في الحقوق السياسية والاجتماعيّة، وحينما لا تكون هناك مساواة أمام القانون في المجتمع الواحد. وغياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو عرقي يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنوّع والتّعدّد، إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والحكمة أصلاً من وجودها على الأرض!
إنّ البلدان العربية الآن على مفترق طرق بين واقع الانقسام على مستوى الحكومات وعلى مستوى الشعوب، وبين أمل البناء السليم للأوطان وللعلاقات الإيجابية بين دول وشعوب الأمَّة الواحدة. لكن اختيار الطريق لا يتوقف فقط على وجود الرغبة، بل على مدى القدرة، ولن يحصل القرار الصحيح بمجرّد الإعلان عنه، بل بالعمل الجاد والفاعل لتحقيقه. وهذه مسؤولية عربية مشتركة، تشمل الحكومات والشعوب وكل مواقع الفكر والاعلام ومؤسسات المجتمع المدني.