فجأةً حصل التوافق الفلسطيني على ورقة العمل المصرية، وما في ذلك من مدخل مهم لإعادة وحدة الجسم الفلسطيني، قيادةً وشعباً وأرضاً. الاتفاق هو حتماً إنجاز مهم للقيادة العسكرية المصرية التي تولّت الإشراف على تفاصيل الاتفاق، كما التوافق الفلسطيني مصلحة عامة منشودة منذ سنوات. لكن هل سيكون الاتفاق أيضاً مقدّمة لاستئناف المساعي الأميركية والأوروبية من أجل تحقيق تقدّمٍ على مسار المفاوضات الفلسطينية/ الإسرائيلية؟ أشكّ في ذلك، لأن الحكومة الإسرائيلية لم تستجب لمطلب وقف الاستيطان في ظلّ ظروف الانقسام الفلسطيني، فلِمَ ستتجاوب الآن وهي التي اعترضت أصلاً على التفاهم الذي حصل بين «فتح» و«حماس» وحذّرت السلطة الفلسطينية من عواقبه؟
فما الممكن حدوثه، إذن، الآن بعد توقيع الاتفاق الفلسطيني؟! أعتقد أنّ هذا الاتفاق سيفسح المجال أمام إمكانية الدعوة لمؤتمر دولي جديد على غرار مؤتمر مدريد منذ 20 عاماً، بحيث يمكن دعوة وفد فلسطيني يمثّل الحكومة المقرّر تشكيلها الآن من عناصر مستقلة (حكومة تكنوقراط)، إضافة إلى سوريا ولبنان ودول عديدة أخرى، لبحث مشروع التسوية الشاملة للصراع العربي/ الإسرائيلي. فالظروف القائمة الآن تساعد كلّها على عقد مؤتمر دولي جديد هذا العام، يُخرج «الملف الفلسطيني» من مأزق الجمود بسبب مواقف حكومة نتنياهو الرافضة لوقف الاستيطان، كما سيفسح هذا المؤتمر المجال لحالات «تطبيع» عربية جديدة مع إسرائيل، ترغب واشنطن في تحقيقها نتيجة ضغوط تمارَس حالياً على أطراف «قوى الممانعة» في المنطقة.
لقد تحدّث الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، مشيراً إلى أهمية وجود ممثلين عن «الدولة الفلسطينية» في الاجتماع القادم للجمعية، أي بعد أقل من 6 أشهر من الآن، بينما يُدرك الرئيس أوباما وإدارته، أنّ ذلك غير ممكن في ظلّ أسلوب التفاوض الذي كان سائداً في السنوات السابقة، والذي وصل إلى طريق مسدود. لذلك يُصبح المؤتمر الدولي بديلاً مهماً لآليّة مسار التفاوض الثنائي، في ظلّ رغبة أميركية وأوروبية وعربية في التعامل مع كلّ ملفّات الصراع العربي/ الإسرائيلي. وقد بدأت إدارة أوباما عهدها بتأكيد الاهتمام بملفّات الصراع العربي/ الإسرائيلي، وبالنّظرة الإيجابية للمبادرة العربية، وبأنّها ستعطي لهذا الأمر أولوية من خلال اختيارها السناتور جورج ميتشل ليكون موفداً خاصّاً لمعالجة ملفّات هذا الصراع، كما سبق له أن فعل ونجح بشأن الأزمة الايرلندية. أيضاً، بقي الموقف الدولي عموماً، متماسكاً خلف الأسس التي قد يقوم عليها المؤتمر الدولي القادم، كما بدا ذلك في قرار مجلس الأمن رقم 1860.
وحتّى على المستويين العربي والفلسطيني، استمرّ النهج الذي يراهن على مضمون المبادرة العربية الداعية لتسوية شاملة على كل الجبهات، والذي يتمسّك بشرعية السلطة الفلسطينية وحدها.
إنّ «توفير» الأجواء المناسبة للمؤتمر الدولي على قاعدة المبادرة العربية قد حصل، وستكون الآن الأولوية حتماً هي إنهاء الانقسام داخل الجسم الفلسطيني، وفق ترتيبات تفرز حكومة وحدة وطنية غير سياسية، وتشرف على إعادة إعمار غزّة، وتتولّى أيضاً مسألة تنظيم المعابر إلى القطاع، مع توافق على استمرار الهدنة الأمنية مع إسرائيل، وعلى إجراء الانتخابات الفلسطينية في العام القادم.
فالحرب على غزّة وضعت جميع الأطراف أمام خلاصات جديدة: لا إمكانية لإنهاء المقاومة ولا لتجاوزها أو تجاهلها. وفي المقابل؛ لا لتجاوز دور قيادة السلطة أو تجاهل الدعم الدولي والعربي لها.
هذه «الضوابط» شكّلت حالةً من «الخطوط الحمراء» لدى كل الأطراف، عربياً وفلسطينياً، إذ تبيّن أنّ هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها من قبل الداعمين للمقاومة، كما ظهرت حدود أخرى أمام من يرفضون نهج المقاومة. في المحصّلة، يبدو أنّ إدارة أوباما ستعود بسياستها في المنطقة، إلى النهج الذي كانت عليه الإدارة الأميركية في فترتيْ بيل كلينتون من تشجيع على تسويات سياسية، كما حدث في الاتفاق الفلسطيني/ الإسرائيلي في أوسلو وما بعده، وكما جرى بين الأردن وإسرائيل في اتفاق وادي عربة، وفي دعم المفاوضات بين سوريا وإسرائيل حتى نهاية عهد كلينتون، وطبعاً مع ضغوطٍ مارستها واشنطن في تلك الحقبة على عدّة أطراف عربية، لمباشرة خطوات التطبيع مع إسرائيل دون انتظار لمصير المفاوضات.
الأمر المختلف الآن، أنّ اتفاقات أوسلو وما بعدها لم تثمر سلاماً ولا انسحاباً إسرائيلياً ولا دولة فلسطينية، وأنّ نهج المقاومة هو الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من لبنان أولاً في العام 2000، ثمّ من غزّة في العام 2005. أيضاً، لم تكن أميركا في حقبة كلينتون بعقد التسعينات متورّطةً عسكرياً في حروبٍ بالمنطقة، ولا كانت إيران قوّة مؤثّرة وفاعلة في أوضاع المنطقة كما هي عليه الآن، ولا كانت هناك مبادرة عربية للسلام مُجمَع عليها من قبل الحكومات العربية، ولا كان هناك هذا الانقسام الحاد في الجسم الفلسطيني بل في الرأس الفلسطيني. هذه كلّها الآن متغيّرات قائمة تدفع إدارة أوباما إلى التعامل معها في الشرق الأوسط، لكن سياسة الإدارة الحالية لن تنفصل عن الرؤية الأميركية العامّة للشرق الأوسط، وهي الرؤية التي وضعت بعهد جورج بوش الأب ضوابط المفاوضات العربية الإسرائيلية في مؤتمر مدريد، ثمّ رعت الاتفاقات والمفاوضات خلال عهد بيل كلينتون.
لقد كان العائق الأكبر، بالمفهوم الأميركي ـ الأوروبي ـ الإسرائيلي المشترك، أمام التسوية الشاملة الآن، هو الحالة الفلسطينية وما فيها من رأسين للجسم الفلسطيني، ومن رفض الرأس الفلسطيني في غزّة التخلّي عن العمل المسلّح والاعتراف بإسرائيل.
لكن الموقف الأميركي سيبقى موضع شكٍّ لدى العرب، طالما استمرّت واشنطن في إغفال التعامل مع العدوان الإسرائيلي على أنَّه حالة احتلال يتوجَّب وقفها فوراً، وأنَّ إنهاء الاحتلال يعني أيضاً بناء دولةٍ فلسطينية مستقلة على كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وضرورة تلازم ذلك مع ضمان حلٍّ عادل لحقوق اللاجئين الفلسطينيين.
فقد تحدَّثت واشنطن كثيراً عن «دولة فلسطينية»، لكن دون تحديدٍ لحدود هذه الدولة وسكانها وعاصمتها، وبلا تحديدٍ أيضاً لنوع السلطة فيها. فلا يكفي الحديث بالعموميات عن «الدولة الفلسطينية»، فحكّام إسرائيل أنفسهم قالوا بتلك العمومية، بينما هم يواصلون قتل الفلسطينيين على الأرض الفلسطينية ويدمّرون ممتلكاتهم..
فغياب السلام الحقيقي يستحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسة حقّ مقاومته. وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الدور الأجنبي (الدولي والإقليمي)، وهو الذي يشجّع الآخرين على التدخّل في شؤون العرب، وعلى تحويل أرضهم إلى ساحة صراعات.