لم تستقر العلاقات السورية التركية خلال التسعين عاماً الماضية سوى في السنتين أو الثلاث الأخيرة، فقد كانت هذه العلاقات دائماً متوترة وصل توترها أحياناً إلى حشد القوات العسكرية التركية على الحدود السورية، وحدث هذا بشكل واضح وكثيف مرتين: المرة الأولى عام 1957 بعد تأسيس حلف بغداد وانضمام سورية إلى مصر في شجب هذا الحلف وإدانة سياساته، واتباع سياسة تقدمية كانت معادية للنفوذ الأميركي المتنامي في المنطقة بعد تراجع النفوذين الفرنسي والبريطاني، مما زاد التحالف السياسي المصري ـ السوري قوة، ويرى البعض أن هذه التهديدات سارعت في قيام الوحدة السورية المصرية تفادياً لأي غزو محتمل لسورية. أما التحشدات الثانية فحصلت عام1998 وكان هدفها إلزام الحكومة السورية بطرد عبد الله أوجلان وإغلاق مقراته العسكرية وهذا ما فعلته السلطات السورية.
بعد أن انهارت السلطنة العثمانية عام 1918 ودخل الحلفاء بلاد الشام وطبقوا اتفاقية سايكس بيكو، ثم اتبعوا فيما بعد سياسة ممالئة لتركيا، بقيت أمور عديدة معلقة بين البلدين كانت سبباً للتوتر، ولم تحل الإشكالات الناتجة عنها طوال القرن الماضي، مثل قضية ضم لواء اسكندرون السوري إلى تركيا، وقضايا الأملاك الزراعية السورية داخل الحدود التركية، فضلاً عن مشكلة تقسيم المياه بين البلدين، وتحكم تركيا في هذه المياه، ورفضها اعتبار نهر الفرات نهراً دولياً. وزاد الأمور تعقيداً دخول تركيا حلف شمال الأطلسي وتنفيذها سياسة هذا الحلف المعادية لسورية والحركة التحررية العربية طوال القرن الماضي، واعترافها بإسرائيل وتحالفها معها إلى حد ما، وقد كان العسكر الأتراك معادين لسورية بأشد درجات العداء طوال عدة عقود.
منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا وربما قبل سنوات قليلة من ذلك، بدأت العلاقات بين البلدين تتحسن، وتنحو إلى أن تكون علاقات طبيعية ثم علاقات تعاون استراتيجي شأن العلاقات بين أي بلدين جارين، وقد رغبت حكومة حزب العدالة والتنمية تطوير هذه العلاقات دون أن تضع لها سقفاً، واستجابت الحكومة السورية لذلك بل شجعت عليه، وتنازلت عن مصالح سورية حيوية عديدة من أجل تحسين العلاقات، خاصة أن السياسة التركية الجديدة تزامنت مع الضغوط الأوروبية والأميركية على سورية، ووجد فيها النظام السوري وسيلة لمواجهة هذه الضغوط، ولذلك دعمها بدون تحفظ، فوقّع مع تركيا (55) اتفاقية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاستثمار والمياه والبنوك.. وغيرها. وكان أهم هذه الاتفاقيات بناء سد مشترك على نهر العاصي الذي يصب في اسكندرون، مما يعني تخلي سورية عن هذه المحافظة واعتبارها أرضاً تركية، والعاصي نهراً دولياً، مع أنه ينبع ويصب في الأراضي السورية. في الوقت الذي لم تعترف فيه تركيا بالمقابل بأن نهر الفرات نهر دولي، ولم يتم الاتفاق على توزيع المياه فيه على هذا الأساس، كما قبلت سورية أن تتولى مساعدة تركيا في حربها ضد حزب أوجلان إلى أبعد الحدود، وعندما قيل لأحد المسؤولين السوريين بأن هذه الاتفاقيات تجعلكم تخسرون اسكندرون أجاب إن خسرنا اسكندرون فقد ربحنا تركيا.
في ضوء هذه العلاقات المستجدة بين البلدين قامت تركيا بمحاولات تفعيل المفاوضات غير المباشرة السورية الإسرائيلية، كما استفادت من العلاقة مع سورية لفتح أبواب دخولها للمنطقة العربية ولاستعادة مجالها الحيوي، وصرح كل من الطرفين أن العلاقات تطورت إلى علاقات استراتيجية شاملة لا جدال فيها.
إلا أن الظروف الطارئة وخاصة في هذا العام واعني بها تظاهر الشعب السوري ومطالبته بالحرية والديمقراطية والمساواة، أثرت تأثيراً سلبياً على هذه العلاقات واتخذت الحكومة التركية كما صرح رئيس وزرائها أكثر من مرة مواقف لم تكن منسجمة مع مواقف النظام السوري، فقد صرح رجب طيب أردوغان منذ بدء الاحتجاجات بأنه نصح الرئيس الأسد بإجراء تغيير ديموقراطي لكنه لم ينصت إليه، وتحدث عن مصالح تركيا في سورية وحدودها الطويلة معها، بما يؤكد حقها بإبداء مثل هذه النصائح، وأخيراً صرح أردوغان في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي أن بلاده لا ترغب في أي انفصال أو تقسيم لسورية، وحذر من عواقب الاستمرار في قتل المدنيين