كانت فقط مسألة وقت وتتهاوى جمهوريات ما بعد الاستقلال العربية، واحدة بعد الأخرى. وإن لم تنطلق الشرارة من تونس، كانت لتأتي من مكان آخر في العالم العربي. مقومات السقوط كانت متأصلة في تركيبة «الجمهورية» من أيامها الأولى، وأبرز تلك المقومات كان غياب المبادئ الرئيسة للنظام الجمهوري، مثل وجود مؤسسات مستقلة ترعى وتضمن تبادل السلطة، وتراقب أداء الجهاز التنفيذي، وتعطي حصانة واستقلالاً للقضاء. حكم الفرد المطلق ـ مهما كانت نواياه حسنة ـ يتحول تدريجياً إلى ممارسة استبدادية مطلقة. الجمهوريات العربية لم تأت نتيجة لتطور سياسي تدريجي أخذ وقته في التشكل، وإنما كانت من نتاج انقلابات عسكرية قادها ـ في أكثر النماذج ـ ضباط شباب برتبة عقيد (أي في الثلاثينات من العمر).
الهاجس الأمني وتصفية الحسابات مع رفاق العسكرية، كانت أيضاً ضمن أولويات قيادة «الجمهورية» الوليدة! تصفية الحسابات تلك، القديمة والجديدة، تؤسس لحالة من الحذر الأمني خشية الانتقام ـ أو الانقلاب ـ المرتقب في أي لحظة، ما يغلب الهاجس الأمني على بناء مؤسسات الدولة والبدء في مشاريع تنموية جادة. أضف إلى ذلك أن معيار تعيين المستشارين والوزراء، يصبح في الغالب على أساس الثقة والولاء، لا التأهيل والخبرة. ولهذا تأخرت التنمية ـ حتى في الجمهوريات العربية النفطية مثل الجزائر وليبيا والعراق ـ وباتت العلاقة بين السلطة والمجتمع متوترة جداً، لأنها علاقة قائمة على الخوف والترهيب والشك المتبادل، ليصبح بعضها جمهوريات للخوف. الجمهورية الحقيقية لا تأتي بانقلاب عسكري، والعسكر وحدهم لا يستطيعون بناء الجمهورية المدنية. إنها تكون نتاج «عملية» سياسية طويلة، وقد تكون حلاً منطقياً لحروب أهلية وصراعات داخلية، لا يجد المجتمع ـ في نهاية المطاف ـ بديلاً لنظام سياسي يحقق التوازنات الأساسية ويحتوي تنوع المجتمع الواحد فكرياً وإثنياً.
لا يمكن أن تأتي الجمهورية بقرار عسكري، إنها تأتي بوفاق جمعي من داخل المجتمع الذي يرتضيها منظومة متكاملة لآلية الحكم وشكل الإدارة. وهي أولاً وقبل أي شيء، ثقافة شاملة تؤسس لممارسة ديمقراطية، فيها وعي وإيمان كامل بفكرة الانتخاب وديمقراطية العملية السياسية، أي قبول الهزيمة السياسية، ودخول اللعبة السياسية التي تقننها الدساتير والقوانين وتراقبها الصحافة ويحميها القضاء. هذه تجربة معقدة وعميقة، ولا يستطيع مجتمع تقليدي ـ في جوهره ـ وما زال وفياً للوصاية الأبوية، أن يقفز فجأة إلى ثقافة الجمهورية بتعقيداتها السياسية والثقافية.
إذن، لم تكن لدينا في العالم العربي جمهوريات حقيقية. كل ما حدث ـ في غالبه ـ كان انقلابا على ثقافة القيادة التقليدية، واستبدالها بوجوه جديدة رفعت شعار الجمهورية ووضعته في عنوان الدولة. وهذا ما خلق الأزمة: فلا القيادة التقليدية بقيت في دائرتها التقليدية، ولا الجديدة ـ التي لا تملك الشرعية الاجتماعية لتحل محل سابقتها ـ قدمت نموذجاً (جمهورياً) يبرر اختطافها لموقع القيادة التقليدية في مجتمعها. القيادة التقليدية في المجتمعات العربية تستمر في مكانتها، لأن مجتمعاتها تعتقد بالحاجة لبقائها. في المقابل، تلك التي سمت بلدانها بالجمهورية، بقيت في مواقعها القيادية بالإكراه وزرع حالة الرعب في المجتمع. ولهذا لم يكن مفاجئا لمن رصد الحالة السياسة العربية، أن يرفع الليبيون علم الملكية الليبية (وبعضهم طرح صراحة فكرة عودة الملكية) في أول يوم انطلقت فيه الثورة الليبية في بنغازي. لكأن العقيد القذافي بمغامراته السياسية واستخفافه الطويل بشعبه، أراد من غير أن يقصد، أن يزرع حنين الليبيين لفترة الملكية السابقة، لأن البديل (أي القذافي) كان وبالاً على ليبيا وأهلها. أم أن العقيد معمر القذافي قاد الانقلاب ليزيح عائلة مالكة ويستبدلها بنفسه وأبنائه وباسم الجماهيرية؟
إن فكرة الحكم في العالم العربي ـ وخاصة بعد فشل جمهوريات ما بعد الاستقلال ـ يتنازعها مساران؛ الأول ديني، والثاني قبلي. ففي الديني، بقي هاجس الدولة الدينية محركا أساسا للجماعات الدينية التي تعيش حلم دولة الخلافة، وهي "نوستالجيا" لفكرة يشك أنها طبقت واقعياً ـ على الأرض ـ كما تنص أدبياتها على الورق، حيث كانت العشيرة تحكم باسم الدين كما تحكم الآن باسم الجمهورية. والثاني، أي القبلي، نشأ تلقائياً ووفق معايير القيادة التي فرضتها ظروف القبيلة في مرحلة ما، وحافظت عليها القبيلة من منطق الحاجة لقيادة تمثلها أمام القبائل الأخرى، وتلجأ إليها لحل خلافاتها أو قضاء حاجاتها. أي النموذجين أقدر على تبني فكرة الدولة الحديثة، دولة المؤسسات؟ الدولة الدينية بشكلها المثالي لم تتحقق أصلاً على مر التاريخ الإسلامي. كل الذي جرى أن "العشيرة" أوجدت لنفسها مبرراً دينياً لتحكم، حتى جاءت عشيرة أخرى وأسقطت حكمها. والجمهورية ـ بشكلها المعاصر ـ لم تأت إلا بعد صراع طويل من الأفكار والحروب والتحولات الكبرى في أوروبا على مر قرون. وهي ـ الجمهورية ـ في العالم العربي فكرة ما زالت أسيرة لثقافة سياسية مرتبكة، تتنازعها الرغبة العشائرية في الاستحواذ، وبالتالي التوريث.
من هنا قد يشكل حراك ميدان التحرير في القاهرة وساحة التغيير في صنعاء، نواة لمشروع سياسي عربي، ربما أسس لثقافة سياسية تعيش داخل العصر لا خارجه. فأولئك الشباب الذين يصفهم البعض بـ"البراءة"، واضح جداً أنهم على صغر سنهم قد أدركوا سر فشل الجمهورية: تأليه القائد وعشيرته، وتجريم النقد وتكميم الأصوات ووضع القضاء في الجيب!
براءة شباب التحرير والتغيير قد تكون نواة الجمهورية العربية القادمة، تلك التي تسابق الآخرين نحو المستقبل، لا تلك التي تختزل الدولة كلها في الرئيس وعشيرته!