كان مفهوماً في حقبة الحرب الباردة هذا الانسجام الكامل بين المصالح الأميركية والإسرائيلية. فإسرائيل كانت بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، صمّاماً للأمان الأميركي في منطقة مجاورة للاتحاد السوفييتي السابق ولأوروبا، وفيها أهم مصادر الطاقة العالمية. وكانت إسرائيل تجسّد، في تلك الحقبة من الصراع بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، دور المخفر العسكري الأمامي الذي يحمي المصالح الأميركية، ويقوم بالنيابة عن واشنطن بما يستلزم من أعمال عسكرية قذرة، تهدف إلى ضبط المنطقة في إطار المصالح الأميركية ومنع تسرّب النفوذ السوفييتي إليها.

وكان هذا المفهوم الأميركي لدور إسرائيل منسجماً مع مصالح الحركة الصهيونية العالمية، ومع مشاريع إسرائيل ومخططاتها الذاتية، تماماً كما حدث في حرب 1967 لإضعاف مصر/ عبد الناصر (التي كانت حليفةً للاتحاد السوفييتي)، ومن ثمّ اندفاع مصر/ السادات إلى المعسكر السياسي الأميركي بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد.

أيضاً، كان لإسرائيل بالمفهوم الأميركي نفسه، دور كبير في إضعاف النفوذ السوفييتي في منطقة المشرق العربي، من خلال ما قامت به عام 1975 من دور مباشر وغير مباشر في إشعال الحرب اللبنانية، التي انغمست فيها جهات عربية عديدة كانت على علاقة جيدة مع الاتحاد السوفييتي.

إلا أنّ انهيار المعسكر الشيوعي نهاية عقد الثمانينات، أوجد مبرّرات عديدة لإعادة النظر في المفهوم الأميركي للدور الإسرائيلي. وقد عبّر عن ذلك بشكل واضح، وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر في عهد الرئيس بوش الأب، في أكثر من لحظة خلاف مع الحكومة الإسرائيلية، كان أهمّها الخلاف على موضوع المستوطنات مع حكومة شامير، وتجميد واشنطن لضمانات القروض المالية، ثمّ تحدّي الرئيس بوش الأب علناً لضغوطات جماعات «اللوبي الإسرائيلي» حول الموضوع نفسه.

ولم تكن المتغيّرات الدولية التي أحدثها سقوط المعسكر الشيوعي وحدها فقط وراء إعادة النظر هذه، بل إنّ غزو صدام حسين لدولة الكويت وما نتج عنه من حشود عسكرية أميركية في المنطقة، كان دليلاً آخر على عدم الحاجة الأميركية للدور العسكري الإسرائيلي بالشكل الذي كان عليه فترة «الفيتو السوفييتي». واستطاعت إدارة بوش الأب في تلك الحقبة الزمنية، أن تجمع بين وجود أميركا العسكري والقوي في المنطقة، وبين علاقات إيجابية مع أطراف عربية فاعلة لم تكن على وفاق أصلاً مع واشنطن. ولقد رافق هذه الحقبة مؤتمر مدريد للسلام، الذي أرادته واشنطن آنذاك أن يكون بدايةً لإنهاء الصراع العربي/ الإسرائيلي، على ضوء المتغيّرات الدولية الجديدة وميزان القوى الجديد في المنطقة.

لكن هذا التوجّه في العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية وفي رؤية منطقة الشرق الأوسط، لم يؤتِ ثماره بسبب اختيار الأميركيين عام 1992 لكلينتون على رأس إدارة ديمقراطية، كانت أولوياتها التعامل مع أوضاع اقتصادية واجتماعية داخلية، دون أن تكون لديها رؤية استراتيجية شاملة لعالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وجاءت حقبة التسعينات مزيجاً من طروحاتٍ نظرية في الغرب وإسرائيل تتحدّث عن «الخطر الإسلامي الجديد» القادم من الشرق، ومن ممارساتٍ عملية من جماعات تحمل شعارات إسلامية وأسماء عربية، وتقود عمليات عنف مسلّحة ضدّ مواقع أميركية في أكثر من مكان، بدأت مع محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، ولم تنتهِ بتفجير الطائرات المدنية الأميركية في واشنطن ونيويورك عام 2001. ورافق هذا المزيج من «النظريات» و»الممارسات»، طرحٌ إسرائيلي مركّز على أهمّية دور إسرائيل بالنسبة لأميركا والغرب، في «الحرب على الإرهاب القادم من الشرق».

ثم جاءت إدارة بوش الابن (ومن كان فيها من المحافظين الجدد الداعمين لنهج التطرف الإسرائيلي) لتبدأ حروباً قائمة على رؤيتها الاستراتيجية للشرق الأوسط والعالم الإسلامي، من منطلق مفهوم العلاقة المتجدّدة والقوية مع إسرائيل.

إدارة باراك أوباما، لم تأخذ طبعاً بنهج إدارة بوش في الشرق الأوسط، بل حاولت أن تعود في سياستها في المنطقة، إلى النهج الذي كانت عليه الإدارة الأميركية في فترتيْ بوش الأب وبيل كلينتون من تشجيع على تسويات سياسية، وطبعاً مع ضغوط تمارسها واشنطن على عدّة أطراف عربية لمباشرة خطوات التطبيع مع إسرائيل، دون انتظار لمصير المفاوضات.

لكنّ الاختلاف الحالي الحاصل بين واشنطن وتل أبيب، ومنذ مجيء إدارة أوباوما، ليس حول الموقف من الملف الفلسطيني فقط، بل هو اختلافٌ في الرؤى حول السياسة المتعلّقة بالشرق الأوسط عموماً.

فبينما جاءت غالبية الأميركيين بإدارة جديدة تتّصف بالاعتدال، وترفض الاستمرار في نهج الحروب العسكرية، وتدعو خصوم أميركا لحلّ الأزمات عن طريق التفاوض، جاءت غالبية الإسرائيليين بحكومة يمينية متطرّفة لا تقبل بحلّ الدولتين، ولا يعترف بعضها بالاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، وهي حكومة أرادت التصادم العسكري مع إيران، والاستمرار في الحروب على حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، ولا تريد أصلاً الدخول في تسوية شاملة أو في اعتماد المبادرة العربية كخطّة للسلام، أو حتى في الحد الأدنى تجميد الاستيطان في الأراضي المحتلة، فكيف بالانسحاب من هذه الأراضي ومن القدس الشرقية؟!

لذلك، ماطلت وستماطل حكومة نتانياهو كثيراً، قبل أن تسلّم بالأمر الواقع الأميركي الجديد، المدعوم من كافّة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن ومن الرأي العام العالمي بأسره. فمشكلة حكومة نتانياهو هي أنّها تتعامل الآن مع إدارة أميركية تحمل رؤية واضحة لما تريد تحقيقه في منطقة الشرق الأوسط ككل، ودور إسرائيل في هذه الرؤية هو دور «المنفّذ»، لا «الشريك» كما كان الحال مع الإدارة السابقة. فعلى إسرائيل «تنفيذ» القبول بمبدأ حل الدولتين والمشاركة ربما في مؤتمر دولي سترعاه اللجنة الرباعية، وقد يكون في موسكو على الأرجح خلال هذا العام، ويستهدف إطلاق المفاوضات لتحقيق تسوية شاملة على كلّ الجبهات. طبعاً، حتّى لو تجاوبت إسرائيل الآن مع الرغبات الأميركية والدولية، فإنّ ما قد يحصل هو العودة إلى المماطلة في تنفيذ التعهّدات والغرق في التفاصيل، بحيث يتمّ مع مرور الزمن تعطيل الأهداف.

لقد كانت السياسة الأميركية سابقاً تجاه الصراع العربي/ الإسرائيلي (وبغضّ النظر عن شخص الحاكم في واشنطن)، أسيرة مفاهيم الحرب الباردة التي كان لإسرائيل خلالها دور بارز في تحقيق المصالح الأميركية. اليوم، إسرائيل هي عبء كبير على أميركا وعلى مصالحها في العالمين العربي والإسلامي، فلم تعد إسرائيل وشواطئها فقط هي المتاح الأساس للتسهيلات العسكرية الأميركية في المنطقة، ولم تعد مصدر أمنٍ وحماية للمصالح الأميركية، بل إنَّ تلك العلاقة الخاصَّة معها أضحت هي السبب في تهديد مصالح واشنطن في بقعةٍ جغرافيةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، يعيش عليها مئات الملايين من العرب وغير العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلاً، بل وسائر خيراتهم الاقتصادية، ارتباطاً شديداً بالشركات والمصالح الأميركية.