في حقبة التسعينات من القرن الماضي، ظهرت على السطح السياسي للمنطقة العربية جملة مشاريع إقليمية ودولية، كانت تريد توظيف نتائج المتغيّرات التي حدثت دولياً، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وعربياً في استثمار ما أدّت إليه حربا الخليج الأولى والثانية من إضعافٍ للقوّتين العسكريتين في منطقة الخليج العربي، ايران والعراق، واستنزاف المال النفطي العربي في هاتين الحربين. في تلك الظروف، التي شهدت أيضاً انتشاراً عسكرياً أميركياً في المنطقة، جرى مؤتمر مدريد من أجل تحقيق التسوية الشاملة بين العرب وإسرائيل. وقد استتبع انعقاد المؤتمر دعوة أميركية (مدعومة من حزب العمل الإسرائيلي) لإقامة «شرق أوسط جديد» يسوده حال التطبيع بين العرب والإسرائيليين، بغضّ النظر عن مسارات المفاوضات التي شملت كلّ الجبهات مع إسرائيل.

في تلك الفترة أيضاً، تحرّكت فرنسا من أجل إقامة «شرق متوسطي»، يربط مجموعة دول البحر المتوسط في صيغة علاقات تكون فرنسا هي محورها. وكان هدف هذه الدعوة الفرنسية، هو التنافس مع مشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة، والذي كان ينافس فرنسا أيضاً في دولٍ إفريقية عدّة.

فسقوط الاتحاد السوفييتي وخروجه من ساحة المنافسة مع الولايات المتحدة و«حلف الناتو»، لم يكن نهايةً للصراع الدولي على «الشرق الأوسط» وما فيه من ثروات نفطية، وما هو عليه من موقع جغرافي استراتيجي يربط بين القارات، وما على أرضه من أماكن مقدّسة لجميع الرسالات السماوية. على العكس تماماً، فإنّ نهاية «القطب الشيوعي» المنافس، فتَح الشهية أكثر على المنطقة العربية، تحديداً في ظل إدارة بوش الابن، التي سعى «المحافظون الجدد» فيها لفرض واقع «الإمبراطورية الأميركية الوحيدة» في العالم، من خلال الهيمنة العسكرية على «منطقة الشرق الأوسط» وثرواتها الطبيعية، وممّا يُسهّل المنافسة الأميركية الجارية مع الصين وغيرها من الاقتصادات الكبرى النامية في القرن الجديد.

رافق هذا الحال على صعيد المشاريع الدولية أيضاً، وجود مشاريع «إقليمية» هامّة على جوار الأمّة العربية وفي قلبها المحتلّ إسرائيلياً.

الآن نجد المنطقة العربية من جديد في حالٍ من الانشداد إلى هذه المشاريع الدولية والإقليمية، دون وجود حدٍّ أدنى من رؤية عربية مشتركة أو «مشروع عربي» يملأ الفراغ الحاصل في المنطقة.

فالمراهنات العربية على الخارج كانت سمة السياسات الرسمية العربية لحوالي قرن من الزمن، وبوادرها كانت في مراهنة الزعماء العرب في مطلع القرن العشرين، على الأوروبيين لمساعدتهم في التخلّص من «الهيمنة العثمانية» التي اشتدّت بها آنذاك حركة التتريك العنصري. وباستثناءٍ محدود في عقديْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فإنّ الاستقطاب الدولي لدول المنطقة العربية كان الحالة الغالبة على قضاياها وحكوماتها. وها هي المنطقة الآن تعيش مرحلة جديدة من الاستقطابات الدولية/ الإقليمية، في ظلّ غيابٍ متواصل لمشروع عربي مشترك وإرادة عربية مشتركة.

ولعلّ آخر مرّة شهدت فيها المنطقة العربية حالةً من التضامن العربي الفعّال، ووجود رؤية عربية مشتركة، كانت في مرحلة ما بعد حرب العام 1967، حينما حصلت قمّة الخرطوم وما جرى فيها من اتفاق على «استراتيجية عربية مشتركة لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي». وقد نجحت هذه السياسة التضامنية، رغم أجواء «الحرب الباردة» وسياسة الاستقطاب بين المعسكرين الدوليين آنذاك، وكانت حرب أكتوبر 1973 أبرز نتائجها الإيجابية. لكن منذ خروج مصر/ السادات من الرؤية العربية المشتركة للصراع العربي/ الإسرائيلي، حصل الانهيار في بيت التضامن العربي، ولم تتمّ حتى الآن إعادة بنائه من جديد، رغم محاولات الترميم المحدودة التي حصلت أكثر من مرّة ولم تعمّر طويلاً.

الآن تنتظر المنطقة العربية نتائج التحوّل السياسي الذي يحدث في مصر بعد «ثورة يناير»، لمعرفة كيف سيكون الدور المصري في عموم المنطقة، ومدى تأثيراته المرتقبة على المشاريع الدولية والإقليمية. فمرحلة الخمسينات والستينات من القرن العشرين قد تميزت (مع كلّ ما تخلّلها من إيجابيات وسلبيات) بقيادة مصر للمنطقة العربية عموماً، وبصناعة الأحداث الهامّة فيها، وبالتأثير المباشر على معظم أوضاعها، وعلى المصالح الأجنبية فيها.. بينما أدّت معاهدات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، إلى إضعاف هذا الدور المصري وإلى خلل كبير في قيادة المنطقة.

ورغم تنوّع التحدّيات التي يواجهها العرب الآن واختلاف ساحاتها، فإنَّ كلاً منها يصيب المنطقة العربية كلّها ولا يعني بلداً دون الآخر، كما أنَّ للولايات المتحدة دوراً حاسماً في كيفيّة التعامل سلباً أم إيجاباً مع كلِّ عنصرٍ من هذه التحدّيات.

والمؤسف في واقع الحال العربي، أنَّه رغم الاشتراك في التحدّيات والهموم، فإنَّ الحكومات العربية تعاملت مع هذه المسائل (وغيرها أيضاً) من منظورٍ فئويٍّ خاصّ، وليس في إطار رؤيةٍ عربيةٍ مشتركة تصون الحقَّ وتردع العدوان وتحقِّق المصالح العربية.

كانت المشكلة عربياً هي انعدام القرار العربي في وضع رؤيةٍ عربية مشتركة، وفي عدم تحمّل مسؤوليات الدور القيادي المنشود لأكثر من طرفٍ عربي. فقد كان النظام الإقليمي العربي مرتاحاً لهذا الواقع العجوز، طالما أنَّه حافظ على استمرار النظم والمصالح الخاصَّة الموروثة فيها!

ورافقت تهميش الصراع مع إسرائيل صراعات عربية ـ عربية، وتراجع دور الجامعة العربية وأنواع العمل العربي المشترك، وحروب داخلية هدّدت وحدة الكيانات الوطنية ودمّرت مقوّمات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، في ظلّ تأجّج المشاعر الانقسامية بين أبناء الشعب الواحد، إنْ لأسباب داخلية أو بتشجيعٍ وتحريض من قوى خارجية. وانسجمت هذه التطوّرات العربية مع السياسة الإسرائيلية، التي تراهن على تمزيق المنطقة العربية إلى دويلات طائفية وإثنية، تكون إسرائيل فيها هي الدولة الدينية الأقوى التي ترتبط بخيوط وعلاقات مع الكيانات العربية المتصارعة، وبشكلٍ مشابه للسياسة التي مارستها إسرائيل في لبنان قبل وبعد اجتياحه عام 1982.

الأمّة العربية الآن أمام مفترق طرق، خاصّةً بعد الثورة المصرية والآمال العربية عليها: الاختيار بين تكامل وتطوير نظم الوطنيات العربية القائمة، أو الانحدار أكثر في تفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية، متصارعة في ما بينها ومتفِّق كلّ منها مع إسرائيل وقوى إقليمية ودولية كبرى!

فلا استمرار لصيغة الكيانات الحالية في ظلّ المشاريع الدولية والإقليمية والإسرائيلية، وتحت وطأة اهتراء الأوضاع الداخلية في أكثر من بلد عربي، وعنف داخلي للحفاظ على الحكم أو للوصول إليه!

ولعلّ مدخل التعامل مع هذه الأوضاع العربية، هو اعتماد البناء الديمقراطي في الداخل الوطني ومع الآخر العربي، وتحريم أسلوب العنف في العمل السياسي العربي ـ وصولاً للسلطة أو حفاظاً عليها ـ وفي العلاقات بين الدول العربية.