تبدو ظاهرة المجتمع المدني في العالم العربي، أحياناً، أقرب إلى الموضة السياسية أكثر منها حقيقة واقعية في الحياة العامة. فمن البداية، نحن أمام مفهوم جديد يمكن تتبعه من ثمانينيات القرن الماضي. فقد دأبت النخبة العربية على تداول مفاهيم معينة بين كل فترة وأخرى، ثم تتركها إلى غيرها دون أن تتحقق أو تتجلى عيانا.
فقد ملأت الساحة الفكرية والسياسية كلمات وشعارات مثل: الاشتراكية، الوحدة، التنمية، التبعية، الأصالة والمعاصرة، العولمة، الحداثة، الشفافية، حقوق الإنسان... الخ. وأظن أن الفجوة بين الفكرة والواقع، هي ما يعجل في الهجرة إلى مفاهيم أخرى. ويمكن القول بأننا نعيش هذه الأيام "عهد المجتمع المدني".
فهو كثير التداول وبين قوى وتيارات مختلفة، بل متناقضة المشارب. لذلك، صار المفهوم مثل قصة الفيل الهندية، كل يصف الفيل حسب الجزء الذي أمسك به من الفيل. ويكاد يكون لكل واحد مجتمعه المدني، لشدة ما تعددت التعريفات. لذلك، يواجه المجتمع كمفهوم وحقيقة، كثيرا من الإشكاليات النظرية والمشكلات العملية.
واجهت المجتمع المدني العربي ـ باستمرار ـ مشكلات النشأة والتكوين، إذ لم يكن نتاج تطور تاريخي طبيعي أو ذاتي، بكل مكوناته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالفكرة غربية وغريبة، على الأقل في البداية، أتت من الخارج وتم استزراعها في التربة العربية. وهذا ما حدث بالضبط، بالنسبة لفكرة الدولة العربية في شكلها الحديث.
فقد واجه نشطاء ومنظرو المجتمع العربي، صعوبات عملية وإشكاليات نظرية وفكرية، في تبيئة مفهوم المجتمع المدني، بدءاً من التعريف المناسب للواقع العربي. وهذه ليست مسألة شكلية بحتة، فمن خلال التعريف نحدد مثلاً:
هل الأحزاب السياسية تقع ضمن المجتمع المدني أم لا؟ وما موقع التنظيمات التقليدية في مجال المجتمع المدني، مثل الطرق الصوفية والأوقاف؟ وهل المجتمع الأهلي مطابق للمجتمع المدني؟ ولأن المفهوم أصلاً من الخارج.
فقد افتقد التنظير والتقعيد الصارمين. والمفهوم ليس مجرد تعبير أو كلمات، ولكنه في جوهره فلسفة ورؤية للعالم في ظرف تاريخي معين. وكان هذا هو الحال في أوروبا، حيث ولد المفهوم في الفكر السياسي الغربي، إبان صعود البورجوازية الغربية وظهور الدولة الوطنية، ثم نمو اقتصاد السوق.
تزامن انتشار المفهوم مع تصاعد الاحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في الدول العربية، وقد جاءت كل هذه الاحتجاجات من الخارج، وبالتحديد من الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، ومن منظمات مثل العفو الدولية ومراصد حقوق الإنسان، ومنظمات الأمم المتحدة. وتم تأسيس الكثير من منظمات المجتمع المدني العربية في هذه الأجواء.
ويضاف إلى ذلك تقديم كثير من المنح من ممولين أجانب، مما ألصق تهمة التمويل الأجنبي بالمجتمع المدني ووصمه بالعمالة، مما جعل المجتمع المدني في حالة دفاع مستمر عن نفسه. وهذا جانب شديد الحساسية، استطاع المعادون لتطور المجتمع المدني، استغلاله في تشويه سمعة الناشطين وفي تعطيل عمله.
وأصبح من السهل على خصوم وأعداء المجتمع المدني، أن يقوموا بابتزاز ناشطي ومناصري المجتمع المدني في المجتمعات العربية، من خلال اتهامهم بموالاة الأجنبي والانحياز للغرب .
بل والخضوع لإرادة المستعمر وتنفيذ أجندته. ويرى فيهم خصوم المجتمع المدني حصان طروادة جديدا، يمهد لعودة الاستعمار الحديث تحت دعاوى الديمقراطية وحقوق الإنسان. وصارت الدعوة للمجتمع المدني جزءاً من الصراع السياسي والايديولوجي، وتمت أدلجة وحزبنة المفهوم في العالم العربي.
وكان من الطبيعي أن تعارض النظم الشمولية والأحزاب التقليدية والمحافظة، انتشار ثقافة المجتمع المدني فكراً وممارسة، لأن انتشار قيم المجتمع المدني سوف يهدد قبضة الدولة المطلقة على المجتمع بكل فئاته وشرائحه، واحتكار الفضاء العام. وهذا اتهام من الممكن الرد عليه، فقد تشكل مجتمع مدني عالمي، تقوم علاقاته على التضامن بلا حدود جغرافية ولا إثنية أو دينية.
. ويساند منظمات العالم الثالث ضمن هذا الفهم والمبدأ، وبالتأكيد بلا شروط. وهذا لا يمنع من وجود مانحين لهم أجندة معينة، ومن وجود ناشطين متلقين يعملون من أجل مكاسب ذاتية، إضافة إلى غياب الديمقراطية الداخلية في كثير من منظمات المجتمع المدني، وغالبا ما تتحول المؤسسة إلى شللية وتكتلات للأصدقاء والأقارب أحيانا، وتتولد قبلية جديدة.
وهذا السلوك منتشر على المستوى القطري والإقليمي. فمن الممكن أن يطلق على مؤسسة اسم "المؤسسة العربية"، ولكنها تكتفي بعدد من المنظمات المعروفة لديها وبعض أسماء الأصدقاء، وتتحول إلى شلة تعيد إنتاج نفسها، دون أي تطوير للمجتمع المدني أو للديمقراطية. وهناك عيب آخر مرتبط بغياب الديمقراطية الداخلية والشللية.
وهذا يظهر أكثر على المستوى القطري، ويتمثل في الصفوية أو النخبوية، إذ يكاد ينعدم وجود منظمات المجتمع المدني في الريف والبوادي والمناطق المهمشة، رغم أن سكان هذه المناطق هم أصحاب المصلحة الحقيقية في وجود مجتمع مدني فعّال، وهم الذين يوصفون بالفئات المستهدفة في طلبات التمويل لإقناع المانحين!
يعاني المجتمع المدني العربي من الضعف التنظيري والفكري، ويرجع ذلك إلى عامل تكويني مرتبط بنشأته، حيث طغت على بداياته الأولى هيمنة النشطاء أو الحركيين، على حساب المفكرين والمنظرين.
فقد سبقت النشاط وتكوين المنظمات، جهود الكتابة في تحديد المفهوم والنظريات المرتبطة به. ومن الملاحظ قلة الكتابات النظرية في المجتمع المدني ذاته، مقارنة بالكتابة عن نشاطه العملي وبالعدد الهائل المتكاثر للمنظمات.
وهذا اتجاه سائد في الواقع العربي، يقلل من قيمة التنظير، بل قد يحقّره البعض حين يصفون شخصا ما بأنه "مجرد منظراتي"، باعتبار أن كل منظر هو عمليا غير قادر على التطبيق والعمل.
وهكذا افتقد مجال المجتمع المدني فضيلة إعادة فهم ذاته ونقدها لاحقاً، بقصد التطوير والتجديد والتعميق، وبالتالي لم يستطع تجاوز عيوب النشأة والتكوين الأولى، ومال المجتمع المدني العربي إلى أن يتحرك كثيراً ويفكر قليلاً.
ويظهر ذلك في قلة الأدبيات العميقة والأصيلة، التي تؤصل فكرة وفلسفة المجتمع المدني في سياق آخر مختلف عن الحالة الغربية المغايرة، لذلك لم يستطع رد تهمة التقليد والتبعية الفكرية. وقد تسبب ذلك في نشاط زائد لا يتطلب منه الرؤية والفكر الذي يسند الأهداف من العمل والنشاط، وحدث خلط في تحديد منظمات المجتمع المدني الأصيلة، وأدرجت في التصنيفات الجمعيات الخيرية والروابط الدينية.
وتسللت جمعيات تشكلها الحكومات لإغراق المجتمع المدني. ومع تطورات الربيع العربي والانتفاضات الشعبية التي عمت المنطقة، يواجه المجتمع المدني العربي تحديات عظيمة، تفرض عليه ضرورة إعادة النظر في تطوره ونشاطه. وهذا يعني ممارسة النقد الذاتي، وبالتالي التوقف عند كل السلبيات والنقائص التي مر ذكرها.