تشهد الآن الأرض العربية جملة تحوّلاتٍ سياسية، شبيهة بما حدث منذ مائة عام تقريباً، بعد ما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج، والتي كان أهمّها انتهاء الحقبة العثمانية في الشرق العربي وهيمنة الأوروبيين على المنطقة، في ظلّ ما كان يُعرف تاريخياً بمصطلحات بدأت مع تعبير "المسألة الشرقية"، وانتهت بتعبير "وراثة الرجل التركي المريض".

وقد حصلت في تلك الفترة مراهناتٌ عربية على دعم الأوروبيين لحقّ العرب المشروع في الاستقلال وفي التوحّد في دولة عربية واحدة. وسُمّيت تلك المرحلة بـ"الثورة العربية الكبرى"، وهي ثورة قام بها الشريف حسين حاكم مكة في يونيو عام 1916 ضدّ الدولة العثمانية، بدعمٍ من بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى. وقد جاء في موسوعة "ويكيبيديا": "أنّ الشريف حسين أعلن الثورة ضدّ الأتراك باسم العرب جميعا. وكانت مبادئ الثورة العربية قد وُضعت بالاتفاق ما بين الحسين بن علي وقادة الجمعيات العربية في سوريا والعراق، في ميثاق قومي عربي غايته استقلال العرب وإنشاء دولة عربية متّحدة قوية، وقد وعدت الحكومة البريطانية العرب من خلال مراسلات حسين ـ مكماهون (1915) بالاعتراف باستقلال العرب، مقابل اشتراكهم في الحرب إلى جانب الحلفاء ضدّ الأتراك".

وتُتابع "ويكيبيديا": "تمكّنت الثورة العربية من طرد القوات التركية من الحجاز، ومن مناطق في شرق الأردن، وساعدت المجهود الحربي البريطاني عسكرياً وسياسياً في المشرق العربي. اقترب العرب من إقامة الدولة العربية الموحّدة في الجزيرة والمشرق، إلا أن بريطانيا بدأت تنفّذ مخططاتها في التجزئة والاحتلال والإلحاق، فقسّمت البلاد إلى 3 مناطق عسكرية: جنوبية وتشمل فلسطين تحت الإدارة البريطانية، وشرقية تمتدّ من العقبة جنوباً حتى حلب شمالاً تحت إدارة فيصل، وغربية تضمّ المنطقة الساحلية من سوريا ولبنان؛ من صور جنوباً إلى كليكيا شمالاً تحت الإدارة الفرنسية. وأُتبع ذلك بالغزو العسكري الفرنسي وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين (وشرق الأردن) والعراق، كما فُرض الاحتلال والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان".

هكذا كان واقع العرب في مطلع القرن العشرين: هدف مشروع في بناء الدولة العربية الواحدة المستقلة، لكن من خلال المراهنة على وعود بريطانية لم تنفّذ طبعاً. بل ما حصل هو تنفيذ بريطاني لوعدٍ أعطاه آرثر بلفور باسم الحكومة البريطانية لليهود، بمساعدتهم على إنشاء "وطن قومي يهودي" لهم في فلسطين.

الآن تعيش المنطقة العربية مرحلة سقوط "النظام العربي الرسمي المريض"، في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير لـ"دولة إسرائيل" على أحداثها، وعلى القوة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية. هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال "النظام العربي الرسمي المريض" أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً ممارسات وأساليب وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.

في الوقائع الآن أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين. فليبيا أصبحت الآن تحت إشراف مجلس الأمن ووصاية مباشرة من "حلف الناتو"، وقبلها كان السودان وما زال، والمحاولات مستمرة لتدويل أوضاع اليمن وسوريا ولبنان.

يترافق مع "وقائع" التدويل الجارية حالياً، وجود "وقائع" عربية مؤلمة داخل المجتمعات العربية، من حيث انتشار وباء الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية، وضعف المناعة في الجسم العربي لمواجهة هذا الوباء. وهنا تأتي أيضاً "وقائع" إسرائيلية عبّر عنها نتانياهو بوضوح في كلمته مؤخراً أمام الكونغرس الأميركي، ونال تصفيقاً حادّاً عليها حينما تحدّث عن لاءاته: لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا للعودة لحدود 1967، لا لوقف الاستيطان، ولا لتقسيم القدس التي ستبقى العاصمة الأبدية للدولة "اليهودية"، كما أشار نتانياهو إلى الآمال التي تضعها حكومته على حركة الشارع العربي: "الذي لم يعد يتظاهر ضدّ إسرائيل، بل ضدّ حكوماته".

في "الوقائع" الإسرائيلية سعيٌ متواصل منذ عقودٍ من الزمن، لدعم وجود "دويلات" طائفية وإثنية في المنطقة العربية. هكذا كان تاريخ إسرائيل مع لبنان والعراق والسودان، وهكذا هو حاضر المعلومات عن عملاء إسرائيل في مصر. ثمّ ما السبب وراء مرور الخبر عن تحذير الجيش المصري من مخطّط تقسيم مصر، دون اهتمامٍ عربيٍّ إعلاميٍّ كافٍ؟! فقد ذكرت صحيفة "الشروق" المصرية (يوم 4/6/11) أنّ "القوات المسلحة لديها وثائق تشير إلى مؤامرة تحيكها "أطراف داخلية وخارجية" لتفتيت مصر إلى ثلاث دويلات، وطرد الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء، وتقسيم الدول العربية على غرار ما حدث في السودان".

وحينما تنشأ هذه الدويلات، فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديمغرافية في عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وسوريا والعراق وبعض دول الخليج العربي. وفي ذلك حلٌّ لقضية "اللاجئين الفلسطينيين" تُراهن عليه إسرائيل أيضاً.

وفي حقبة "الصراعات الدموية" التي ستسبق قيام الدويلات الدينية، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات في القدس والضفة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى دويلات تحتاجهم عدّةً وعدداً، بل ربّما يكون ذاك الوقت المناسب لجعل الأردن "الوطن الفلسطيني البديل"، مع أجزاء من الضفة الغربية.

هذه ليست "تخيّلاتٍ وأحلاماً ومشاريع"، بل هي "وقائع" إسرائيلية قائمة على الأرض، في ظلّ حكومة يقوم برنامجها على ما سبق ذكره من أجندة فكرٍ وعمل.

طبعاً ليست الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأجنبية بمثابّة "قضاء وقدر"، فقد كانت هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى إحباطها ومقاومتها في أكثر من مكان وزمان، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية. فالحديث عن "مقاومة إسرائيل" و"مواجهة الهيمنة الأجنبية"، ليس هو الأولويّة الآن لدى جماعاتٍ كثيرة على امتداد الأرض العربية، بل إن بعض هذه الجماعات لا يجد حرجاً في طلب التدخّل الأجنبي. وربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود "مشاريع" أميركية وأوروبية وإسرائيلية وتركية وإيرانية، للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية، ولتوظيف حركة "الشارع العربي" لصالح أجندات غير عربية، لكن في ظلّ غيابٍ تام لأي "مشروع عربي" يُحافظ على وحدة أوطان هذه الأمَّة وعلى مصالحها، ويحفظ استقلال إرادتها وقرارها. بل المؤسف أكثر من ذلك، أنه ليس هناك "مشروع وطني توحيدي" في الأوطان العربية التي انتصرت فيها الثورات، فكيف بتلك التي ما زالت تنتفض وتنتظر؟!

عسى أن يدرك الحكّام العرب والمواطنون العرب عموماً، إلى أيِّ منقلبٍ قد ينقلبون وهم يحكمون أو يثورون!