يتوقع بعض خبراء الاستراتيجية الدولية، أن تصبح الحملة العسكرية لحلف شمال الأطلسي "الناتو" في ليبيا، مستنقعا يغرق فيه الحلف إلى حد الاختناق والتفكك.

هذا على الرغم من عدم وجود أية مقاومة ليبية لهجمات قوات الحلف، التي تحقق تقدما وتلحق إصابات حاسمة وحيوية ومؤثرة في قوات القذافي، ولكن السبب على ما يبدو يرجع إلى الخلافات المتصاعدة وبحدة، داخل قيادة الحلف وبين الدول أعضائه.

والتي عبرت عنها تصريحات وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس الأخيرة، التي قال فيها "إن الحملة العسكرية على ليبيا أظهرت انقسام حلف الناتو إلى مجموعتين، إحداهما صغيرة مستعدة للقتال، وأخرى كبيرة لا تريد مواصلة القتال". وعبر غيتس عن خطورة هذا الموقف، قائلا إنه يتوقع "مستقبلا مظلما للحلف إذا استمر الحلفاء الأوروبيون على رفضهم زيادة مساهماتهم المالية والعسكرية لعمليات الحلف في ليبيا".

الانقسامات والخلافات داخل الناتو بشأن العمليات في ليبيا، واضحة للجميع، وقد بلورها تقرير أخير لمعهد ستراتفورد الأميركي للدراسات الاستراتيجية والاستخباراتية، الذي أكد على تصاعد الخلافات داخل الحلف.

مشيرا إلى المواقف المتحفظة لألمانيا ودول أخرى انضمت حديثا من وسط وشرق أوروبا، بشأن طبيعة مهمة الحلف في ليبيا والغايات المستهدفة منها، حيث تعارض غالبية دول الحلف تجاوز قرار فرض الحظر الجوي، ومحاولة الإطاحة بالنظام واغتيال القذافي وعائلته، الأمر الذي أدى ببعض الدول الأعضاء إلى رفض المشاركة في العمليات العسكرية، وأيضا رفض تقديم دعم مالي أو عسكري لهذه العمليات.

وقادت ألمانيا حملة الرفض، حيث انتقد وزير دفاعها توماس دي ميزير حملة الحلف على ليبيا واصفا إياها بقصر النظر، وشدد على رفض بلاده المشاركة فيها، وأكد حتى مقدما على رفض المشاركة في حملة أخرى للحلف قد تتقرر مستقبلا ضد سوريا.

هذا السيناريو هو نسخة مكررة تقريبا، من السيناريو الذي يواجهه الحلف في أفغانستان منذ أربعة أعوام مضت، حيث يرفض بعض دول الحلف، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، إرسال قواتها إلى جنوب أفغانستان للمشاركة في العمليات العسكرية الدائرة هناك ضد حركة طالبان.

وترفض أيضا هذه الدول تقديم الدعم المالي لهذه العمليات. ونفس الخطاب الذي يوجهه وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس للدول أعضاء الحلف الآن، سبق أن قدمه، وربما بنفس الكلمات، عام 2008 بشأن العمليات في أفغانستان.

ويذكر هنا أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل قالت "إننا لم نرسل قواتنا لأفغانستان لتحارب في الميدان، ولكن من أجل حماية الأمن والديمقراطية". وقد سبق أن طالب روبرت غيتس أعضاء الحلف الممتنعين عن المشاركة في القتال، بأن يقدموا بدلا من ذلك دعما ماليا مناسبا للقوات التي تحارب في الميدان، وهو نفس الطلب الذي يكرره ويردده غيتس الآن في ليبيا.

أزمات حلف شمال الأطلسي، بدأت في الظهور بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانضمام عدد من دول أوروبا الشرقية "الشيوعية سابقا" إلى الحلف. هذه الدول التي خرجت لتوها من عباءة الاتحاد السوفيتي باقتصاديات شبه منهارة، فهرولت نحو الانضمام لحلف الناتو أملا في الدعم المالي والاقتصادي.

وكعادة واشنطن في ابتزاز حلفائها الأوروبيين، ألقت عليهم أعباء مساعدة هذه الدول الجديدة المنضمة للحلف، وفرضت عليهم حصصا مالية لبناء جيوش هذه الدول، وشراء السلاح اللازم لها من مجمع التصنيع الحربي الأميركي. وهنا وجد الأوروبيون القدامى أنفسهم مرة أخرى فريسة لواشنطن، بعد أن اعتقدوا أن أعباء الإنفاق العسكري سوف تنتهي بانهيار العدو الأكبر الاتحاد السوفيتي، الذي تأسس حلف الناتو فقط لمواجهته وحماية أوروبا من تهديداته.

وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وانطلاق الحملة الأميركية العالمية لمواجهة ما أسموه "الإرهاب الدولي"، هذه الحملة التي أرادت واشنطن استخدام حلف الناتو فيها بشكل أساسي، الأمر لذي شعر معه الأوروبيون أنهم مقبلون على استنزاف جديد لمواردهم المالية لا طاقة لهم به.

وكانت بداية التمرد داخل الحلف، من كبار أعضائه الأوروبيين؛ ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، الذين رفضوا المشاركة في الحرب على العراق، وبدأت بعض الدول الأخرى في الحلف تحذو حذوهم، الأمر الذي دفع واشنطن إلى توجيه انتقادات حادة لهم، ووصفهم وزير الدفاع الأميركي السابق رامسفيلد بـ"أوروبا العجوز".

مع استمرار الحرب في العراق واشتعالها في أفغانستان، بدأت تظهر في أوروبا الدعوات إلى تأسيس هيكل أمني أوروبي مستقل عن حلف الناتو، وتبنت ألمانيا وفرنسا وإسبانيا هذه الدعوات، وانضمت روسيا بعد تولي الرئيس ديمتري ميدفيديف الحكم.

لهذه الدعوات، طارحة مشروعا لهيكل جديد للأمن الأوروبي يقتصر فقط على الأوروبيين، وهي الفكرة التي لاقت قبولا من الدول القديمة الكبرى في الحلف باستثناء بريطانيا، بينما اعتبرتها واشنطن مؤامرة روسية لإزاحة الوجود الأميركي من القارة الأوروبية.