هناك فرزٌ حاصل الآن بين منظورين سياسيين لما يحدث في المنطقة العربية. المنظور الأول يحصر الأمر بـ"مؤامرة دولية" تستهدف الهيمنة الكاملة على العرب ووضعهم جميعاً تحت "الوصاية الدولية"، بينما يرى الآخر أن لا مؤمرات خارجية، بل حراكٌ شعبي عربي مشروع ولا يجوز ربطه بأيّة جهةٍ خارجية.
ثمّة "رأي ثالث" لا يجد له متّسعاً كبيراً في التداول السياسي والإعلامي، وهو رأي يؤكّد على نزاهة الثورات والانتفاضات الشعبية العربية، وعلى حقّ الشعوب في التحرّك من أجل الحدّ من الاستبداد والفساد.
لكن دون إغفالٍ لما يحدث أيضاً من محاولاتٍ إقليمية ودولية لتوظيف هذا الحراك الشعبي وتحريفه، وجعله يخدم مخطّطات ومشاريع سبقت بسنوات هذا الحراك العربي.
واقع الحال العربي الآن، يقوم على مزيج من هواجس خوف على أوطان مع بوارق أمل من شعوب. وما يحدث في هذا العام داخل أوطان الأمة العربية من مشرقها إلى مغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالةٌ هامّة على نوع وحجم القضايا التي عصفت لعقودٍ طويلة، ولا تزال، بالأرض العربية.
وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
ولعلَّ أهمّ دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن، هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم "الحرّية."،
حيث إنّ الحرّية هي حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً، ولا يجوز القبول بإحداهما بديلاً عن الأخرى. كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية، فلا فصل بين تأمين "لقمة العيش" وبين حرّية "تذكرة الانتخابات".
وكم يتعاظم حجم المأساة حينما يعاني بعض الأوطان من انعدام كل مضامين مفهوم الحرية، أو حين يجتمع لديها وجود حكوماتٍ تفرض "الخوف والجوع" معاً، في ظلِّ هيمنةٍ أجنبية وفسادٍ سياسي في المجتمع.
ربّما كانت سمة مشتركة بين عدّة بلدان عربية، أن نجحت شعوبها في مقاومة المستعمر والمحتل، ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.
فمعارك التحرّر الوطني لم تكن مدخلاً لبناء مجتمعات حرّة، يتحقّّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية في الحكم وفي صنع القرار. ولذلك، عادت هذه البلدان إلى مشكلة كيفيّة التعامل مع قضية الهيمنة الأجنبية.
كذلك نجد على مستوى الشعوب العربية عموماً، حالاتٍ سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو إثنية، بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمعٍ حيويٍّ موحّد. أمّا على صعيد الدور الخارجي في الأزمات العربية، فهو حتماً عنصرٌ فاعل في إحداثها أو في توظيفها واستثمارها.
وهذا الدور الخارجي يجمع، كما فعل على امتداد العقود الماضية، بين إسرائيل وجهات دولية وإقليمية كبرى، وتدخّلها كلّها حتّى في أصغر القضايا العربية.
لكن هذا التدخّل الإسرائيلي ـ الأجنبي ما كان ليحدث بهذا الشكل والمضمون، لولا حالات الوهن والضعف في الجسم العربي عموماً، وداخل الكثير من أوطان العرب. بل إنّ ذلك كلّه يؤكّد جدّية المشروع الإسرائيلي الساعي لتفتيت ما هو أصلاً مقسّمٌ عربياً، ولإقامة دويلات دينية وإثنية تبرّر وجود "الدولة اليهودية"، التي ستتحكّم في مصائر هذه الدويلات وترث "الرجل العربي المريض".
، كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس- البريطاني وبيكو- الفرنسي) مطلع القرن الماضي "الرجلَ التركي المريض". أمّا المشروع الأميركي للمنطقة، فقد كان خلال حقبة بوش و"المحافظين الجدد" يقوم على فرض حروب و"فوضى خلاّقة" و"شرق أوسط جديد.
وعلى الدعوة لديمقراطيات "فيدرالية"، تُقسّم الوطن الواحد ثم تعيد تركيبه على شكل "فيدرالي" يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقراراته. وكانت نماذج هذا المشروع في العراق وفي السودان معاً.
الآن نجد إدارةً أميركية تعمل على تحقيق المصالح الأميركية، من خلال دعوة الحكومات العربية (والضغط عليها) لتحقيق إصلاحات دستورية واقتصادية، تضمن أيضاً في هذه البلدان بقاء المصالح الأميركية، إذ لا يهمّ الحاكم الأميركي إلا المصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدان أخرى.
الأمر يتوقّف طبعاً على "ظروف" هذا البلد، ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسسات القائمة فيه بما فيها المؤسسة العسكرية، لكن الاعتبار الأميركي الأهم هو "نوع" البدائل الممكنة لهذا النظام أو ذاك.
وما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ ليس عن خطايا حكومات وأنظمة أو عن "تدخل خارجي" فقط، بل هو أيضاً مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، أو في مستنقع "الدعم الأجنبي".
إنّ المشترك بين البلاد العربية لم يعد وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا فحسب، بل أيضاً وحدة الحال من حيث وجود العديد من الحكومات الفاسدة والقمع السياسي والفقر الاجتماعي وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، وكلّها عناوين لانتفاضات شعبية وراءها عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على الأرض العربية.
لكن ماذا بعد الانتفاضات؟ وعلى أساس أيِّ برنامجٍ للتغيير، بل وفق أيِّ أسلوبٍ في التحرّك من أجل التغيير؟
فأسلوب التغيير الداخلي، المنشود في عدّة بلدان عربية، لا يجب أن يخرج عن رفض استخدام العنف المسلّح، مهما كانت الأعذار والظروف، وعلى المضطلعين بالتغيير أن يحرصوا أيضاً على استقلالية التحرّك الشعبي عن أيِّ جهةٍ خارجية، وعلى التمييز بين صوابيّة هدف الضغط على النظام وبين خطيئة تحطيم الدولة، فما زال هاجس "التغيير الجغرافي" في البلدان العربية أشدّ حضوراً من أمل "التغيير السياسي".
وقد تستفيد القوى الأجنبية الدولية والإقليمية من تصدّع العرب ومن تداعيات أوضاعهم سياسياً وأمنياً، لكنَّ ذلك سيؤكّد من جديد مخاطر النهج الذي سارت عليه هذه الأمَّة خلال العقود الأربعة الماضية، على مستوى معظم حكوماتها وشعوبها وحركاتها السياسية.
وطالما أنَ الانقلابات العسكرية الداخلية من أجل تغيير الحكومات صعبة الآن، وهي أسلوبٌ مرفوض حالياً في العالم ككلّ، فأيُّ نظامٍ ديمقراطي يمكن أن يستتبَّ حصيلة فوضى حروبٍ أهلية أو تدخّلٍ عسكريٍّ خارجي؟
إنَّ الكثير من الحكومات العربية أعطى الأولويّة لاستمرارية الحاكم في الحكم، لا لاستمرارية الوطن نفسه. والكثير من المعارضات العربية أعطى الأولوية للتغيير في الحكم، لا في المجتمعات التي تتوارث فيها الأجيال مفاهيم خاطئة عن النّفس وعن الآخر .
بينما الغائب-المطلوب هو طروحات وطنية عروبية ديمقراطية، تبني جيلاً عربياً جديداً واعياً فكرياً، وليس ناشطاً حركياً فقط، وتحوّل طاقاته إلى قوّة تغييرٍ سلمي، تُصلح مجتمعها وترتقي به، وتصون وحدة أوطانها، وتردع أيَّ تآمرٍ خارجي.