أكتب بعد لحظات من إعلان حكومة السودان الاعتراف بدولة جنوب السودان، في محاولة لاستباق بقية العالم وأنها أول من اعترف بالدولة الوليدة! ويا له من إنجاز، فهي تسعى لتحويل العار الذي طالنا جميعاً، إلى سبق سياسي، وتبارى سياسيون آخرون في تهنئة الجنوبيين ونصحهم. وهذا الاعتراف السريع والتهنئة والنصيحة، قصد بهما الانحراف بالخيبة إلى جانب آخر.
وتطبيع القرار الفضيحة وجعله أمراً عادياً. ويدرج هذا الموقف الغريب في الحالتين، تحت فضيلة «احترام إرادة الإخوة الجنوبيين»! والمطلوب منا أن نقفز فوق التاريخ والفشل وسوء التقدير، ونحمد للنظام والأحزاب ديمقراطيتهم وروحهم الرياضية التي قبلوا بها نتيجة الاستفتاء. ومن غير محاسبة وعبرة من التجارب المريرة، سوف يطلب منا التعامل مع حقبة جديدة. والقبول بمثل هذا المطلب، يعني مباركة المسيرة الخاطئة التي انتهت بفصل الجنوب، وتمرير التنصل من المسؤولية.
وهل بالفعل هذه هي «إرادة الإخوة الجنوبيين»؟ لا، قاطعة. فقد عبر الجنوبيون عن إرادتهم الحقيقية في مؤتمر جوبا عام 1947، وقرروا الاستمرار موحدين مع الشمال، علماً بأن المؤتمر عقد برعاية الإدارة البريطانية التي نعلق عليها تهمة نشوء مشكلة الجنوب. وانتصرت إرادة الجنوبيين الوحدوية، رغم اقتراحات ضم الجنوب لدول شرق إفريقيا باعتبارها الأقرب إليه ثقافياً وجغرافياً، كما رفضوا اقتراح الحكم الذاتي للجنوب.
كان مؤتمر جوبا رسالة واضحة للجميع، بأن السودان المقبل على الاستقلال آنذاك يجب أن يكون موحداً. ورغم تمرد أغسطس 1955، صوّت النواب الجنوبيون إلى جانب زملائهم الشماليين للاستقلال من داخل البرلمان.
وكان الجنوب قد وعد بوضعية متميزة، تصلح المظالم التي تعرض لها تاريخياً، وكانت سودنة الوظائف أول فرصة لإنصاف الجنوبيين وتمكينهم من المشاركة في إدارة الوطن الواحد. ولكن حنث الشماليون بالعهد، وبدأت سياسة نقض العهود، حسب التعبير الجنوبي، وسادت أزمة ثقة عميقة بين الشماليين والجنوبيين.
عانى الجنوبيون من التخلف والقهر والاقتتال منذ الاستقلال، ورغم تعاقب الحكومات المدنية والعسكرية. ولكن هذا لم يمنعهم من الوصول إلى اتفاقية سلام عام 1972، أوضحت أن إرادة الإخوة الجنوبيين هي مع الوحدة التي تعطيهم حكماً ذاتياً، يسمح لهم بقدر من الحرية في إدارة شؤونهم المحلية. وعاش الجنوبيون في سلام واستقرار حتى عام 1983، ولم يبادر بالتمرد إلا بعد أن نقض الرئيس النميري عهده، وقام بتقسيم الجنوب ثم إعلان قوانين سبتمبر 1983 «الإسلامية».
وللمرة الثالثة لم يفقد الجنوبيون الأمل في وحدة تقوم على المساواة والمواطنة، لذلك وقعوا على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا عام 2005، والتي لم تنص على الانفصال، بل كانت قوية الأمل في الوحدة الجاذبة.
ولكن الفترة الانتقالية الممتدة لست سنوات، تحولت إلى حقبة صراع بين الانفصاليين الشماليين والجنوبيين، ولم تتح الفرصة للحكمة والموضوعية، وقاد انفصاليو الشمال، من خلال تنظيمهم «منبر السلام العادل» وصحيفتهم «الانتباهة»، حملة صليبية حقيقية، فقد قامت في جوهرها غير المعلن على الاختلاف الديني. ولم يعط انفصاليو الشمال للجنوبيين أي فرصة للتفكير في علاقة تعايش سلمي مشتركة، وظلوا يضيقون عليهم فرصة التقارب مع الشمال.
إن هذا الحديث عن إرادة الإخوة الجنوبيين، كلام فاقد القيمة والمعنى، ويظل جزءاً من الثرثرة السياسية الفارغة، التي تعود عليها الساسة السودانيون. وحتى النسبة العالية للاستفتاء، هي نتيجة أخطاء تاريخية وراهنة تم الإصرار عليها وعدم تصحيحها. فقد خلت برامج الأحزاب الكبرى التي تعاقبت على حكم السودان، من الدعوة إلى قيام دولة ديمقراطية مدنية حديثة لإدارة البلاد. ولم يكن من الممكن حكم قطر متعدد الأديان والثقافات، إلا من خلال دولة مدنية قائمة على حق المواطنة، وليس حسب العقيدة.
ولكن من المستحيل أن نتوقع من حزبين قائمين على أسس طائفية (الاتحادي الديمقراطي/ الختمية، وحزب الأمة/ الأنصار)، أن يبادرا بتبني دولة مدنية. لذلك، فشلت كل البرلمانات منذ الاستقلال، في إقرار دستور دائم للبلاد. ومن المفارقة، أن كل الدساتير وضعتها النظم الانقلابية ـ العسكرية.
وظلت أغلبية القوى السياسية المؤثرة إلى جانب الدولة الدينية أو شبه الدينية، التي تقيم الشريعة الإسلامية: الإخوان المسلمون، حزب الأمة، والاتحادي الديمقراطي. ورغم حماسهم لشعار تطبيق الشريعة، لم يقدموا أي اجتهاد عملي لتحديد وضعية غير المسلمين، يرضي الجنوبيين أو على الأقل يطمئنهم. ولكن المزايدة بقضية الشريعة تواصلت، حتى وصلت مع حزب المؤتمر الوطني إلى خيار الشريعة أو الانفصال. وهي معادلة خلت من الفطنة وفي غير مكانها، ووضعت الجنوبيين في خيار سهل لكي يؤكدوا الانفصال ويجدوا المبرر.
راح الجنوب، ولكن بقيت المشكلات والتحديات تواجه السودان الأصل، وذلك ببساطة لأن المشكلة ليست الجنوب، ولكن في كيفية حكم السودان المتعدد. فالسودان مطالب بعد هذه التجربة الكارثية، بأن يفيق ويعود له وعيه ويقرأ التاريخ بعقل مفتوح. نحن في عصر الديمقراطية والتعددية ونسبية الأشياء، ولا بد للسودانيين من التخلي عن التشرذم والشخصنة والبداوة، لكي يتفقوا حول ثوابت قومية وعصرية. ويبدو أن المؤتمر الوطني سعيد بما يراه النقاء العروبي - الإسلامي، بعد ذهاب الجنوب - العقبة. ولكنه في هذه الحالة سوف يضيف إلى أخطائه الفادحة، خطره القاتل.
فالسودان لا يعاني من نقص في الدين، ولكن من نقص في الديمقراطية والتنمية. والإسلام والعروبة لا يواجهان أي خطر في السودان، ولكن الوطن يواجه الخطر الداهم والقريب، بعد انفصال الجنوب وتدفق القوات الأجنبية. ولا أدري من أين أتى بعض الإسلاميين بفكرة تناقض فكرة الوطن مع فكرة الأمة الإسلامية؟
السودانيون الآن في حالة ذهول وصدمة، فقد كانوا يرون أنهم مختلفون عن بقية العالم، وأن ما حدث في يوغسلافيا أو الاتحاد السوفييتي لا يمكن أن يحدث في السودان. ولا أدري من أين أتى هذا اليقين؟ لذلك تعطلت القدرة في التفكير في المستقبل، ويصمت الجميع ـ حكومة ومعارضة ومراقبين ـ عن طرح سؤال: ثم ماذا بعد؟
ويجب ألا تترك الإجابة للنظام وحده باعتباره الممسك بالقرار. وهذا توهم خاطئ، فقد أثبتت اتفاقية أديس أبابا الإطارية الأخيرة، أن النظام السوداني في حالة دوار سياسي كامل، وقد افتقد البوصلة على عدة مستويات: حزبية، وتنفيذية، وشعبية. ويعيش السودان اليوم فراغاً سياسياً لا تسمح به طبيعة الأشياء، والنظام لا يمتلك أي مبادرة، وبعض الأحزاب عينه على وراثة التركة الجنوبية في السلطة، ولكن «المؤتمر» سوف يحتاج هذه التركة لترضية عناصره بعد توقف عائدات النفط. وهذه الصورة السريالية هي التي يمكن أن تصف الحالة السودانية؛ وطن يكاد يكون على حافة الهاوية.