كشفت الثورات الشعبية في البلدان العربية بشكل واضح، عن التوجهات الحقيقية لسياسات الدول الكبيرة في العالم، ومن بينها روسيا التي تميزت بشكل كبير في مواقفها تجاه هذه الأحداث عن غيرها من الدول الغربية. ورغم ما نالته موسكو من انتقادات حادة من بعض شعوب المنطقة، وصلت إلى حد حرق العلم الروسي في إحدى المدن السورية، إلا أن تطور الأحداث هناك يكشف مدى صحة الموقف الروسي.

وأيضا مدى حيادية روسيا والتزامها بمبادئ القانون الدولي، وعلى رأسها مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية، بينما ذهبت دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة تخرق هذه المبادئ وتتدخل بشكل سافر في شؤون الدول. ولا يمكن لعاقل أن يصدق أن هذا التدخل من أجل مصالح الشعوب، ولا من أجل الديمقراطية المزعومة، كما أنه ليس عداء للأنظمة الحاكمة القمعية المستبدة، فمعظم هذه الأنظمة، وربما جميعها، على علاقات طيبة وودية مع الغرب وواشنطن، بما فيها نظام القذافي في ليبيا الذي حظي في العامين الماضيين برضى كبير من واشنطن ولندن.

ولا نبالغ إذا قلنا إن توجه وولاء الأنظمة الحاكمة في المنطقة لواشنطن والغرب، أكثر بكثير جدا من توجهها لموسكو الذي يكاد يكون منعدما تماما، بما فيها النظام السوري الذي انتهج منذ تولي الرئيس الشاب بشار الأسد للحكم، سياسة خارجية مختلفة إلى حد كبير عن والده الرئيس الراحل، وكان أقرب، في العامين الماضيين، للغرب منه لروسيا التي هي مصدره الوحيد في السلاح، ولكن موسكو لم تكن تحتل المكانة التي تستحقها على أجندة دمشق الخارجية، بل كانت واشنطن ولندن تتقدمان عليها كثيرا في هذه الأجندة.

حقا أن الثورات الشعبية العربية ليست من تدبير الغرب، بل هي ردات فعل شعبية على أحوال سيئة تعيشها شعوب المنطقة منذ عقود مضت، ولم يكن هذا الأمر خفيا على أحد في الخارج، سواء في أوروبا أو موسكو أو واشنطن، فقد كان الجميع يعلمون أن الشعوب العربية تعاني غيابا تاما للديمقراطية والحرية، وأن حقوق الإنسان منتهكة في معظم هذه الدول لأبعد الحدود.

وأنه باستثناء شعوب دول الخليج النفطية، فإن باقي الشعوب العربية تعيش الغالبية العظمى فيها حالة أقرب لخط الفقر، وأن الفساد مستشرٍ في مؤسسات الحكم والدوائر المحيطة بها. كل هذا كان معروفا للجميع في الخارج، لكن رغم ذلك كان الأوروبيون بقيادة واشنطن يدعمون هذه الأنظمة الحاكمة، التي يهاجمونها الآن ويطالبونها بالرحيل، بل كانوا أكثر من ذلك يضربون المثل بالنظامين المصري والتونسي المخلوعين، في الاعتدال والإصلاحات والتنمية.

وعندما ثارت الشعوب، تعامل الغرب مع هذه الأنظمة على أنها أوراق محروقة، وذهب يلعب على مشاعر الشعوب الثائرة، محاولا الصيد في الماء العكر، وهو ما لا تجيده موسكو ولم تفعله في تاريخها. فقد اعتادت روسيا أن تتعامل مع الدول على المستويات الرسمية فقط، ووفق مبادئ القانون الدولي.

ولا تتدخل في أي شأن شعبي. ورغم هذا لو قارنا، سنجد أن روسيا قدمت لشعوب هذه المنطقة من الخدمات والمساعدات والدعم التنموي، ما لم تقدمه لهم أوروبا والولايات المتحدة مجتمعين على مر التاريخ، وذلك بالمقارنة بالثروات الهائلة التي نهبها الغرب الاوروبي والاميركي من هذه المنطقة، بينما لم تحصل منها روسيا حتى على ديونها المستحقة لها منذ زمن الاتحاد السوفييتي.

روسيا لم تدعم الأنظمة ضد الشعوب كما يصورها البعض، بل كل ما فعلته وألحت عليه كثيرا، هو الوساطة والحوار السلمي، وهو الأمر الذي لم يطرحه الغرب وواشنطن، لا في الثورات الشعبية الحالية ولا في تاريخهم السابق، بل دائما كانوا يدعمون الأنظمة المستبدة، وفي نفس الوقت يصبون الزيت على النار لإشعال الشعوب ضد هذه الأنظمة، ويدعمون الأقليات ويبثون الفتن العرقية والطائفية، بهدف إشعال الأزمات الداخلية وتصعيدها.

هكذا اعتادوا أن يصطادوا في الماء العكر، الذي أعطوه مصطلحا جديدا أصبح متفقا عليه عالميا، تحت مسمى "الفوضى الخلاقة". لقد سبق أن اتبعوا هذه السياسة في مناطق كثيرة في العالم، وفي جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، حيث أيدوا الثورات الملونة ضد أنظمة حكم موالية تماما للغرب، مثلما حدث في أوكرانيا وجورجيا وقرغيزيا وأوزبكستان ومولدافيا، وها هم يكررون نفس السياسات في الشرق الأوسط.

لقد كانت روسيا تأمل أن يفيق الغرب من ماضيه الاستعماري البغيض، ويخرج للعالم الجديد الذي تسير نحوه البشرية الآن، لكن أحداث الشرق الأوسط أثبتت أنهم ما زالوا على عقليتهم الاستعمارية القديمة، وما زالوا ينظرون لمنطقة شمال إفريقيا والعالم العربي عموما، على أنها نطاق استعماري مباح لهم يفعلون فيه ما يشاءون، يقتلون ويدمرون وينهبون الثروات، ويغيرون الأنظمة ويقسمون الدول، وعندما تثور الشعوب ضد الأنظمة يهرول الغرب ويركب الموجة الشعبية، مدعيا كذبا دعم حريات الشعوب وحقوقها، وذلك خشية من أن تفيق هذه الشعوب وتعرف عدوها الحقيقي، الذي لا يريد لها التقدم والنمو ولا الحرية الحقيقية.