يقف السودان المتبقي بعد الانفصال، في مفترق طرق؛ طريق النهضة والتعافي وإعادة التأهيل، أو طريق الانهيار والسقوط والتفسخ. فقد دشن الانفصال تاريخا طويلا من التخبط والفشل وعدم الجدية والغباء السياسي، فالانفصال صفعة التاريخ الطبيعية للسودانيين الذين فرطوا في فرص نادرة لتحقيق الاستحقاقات الوطنية، وعلى رأسها الدولة المدنية الحديثة. وقد أصبح موقف السودان أكثر تعقيدا وهشاشة، فقد ضعفت القدرات والموارد المادية والبشرية، وتناقص التعاطف والاهتمام. ونستعيد هنا نظرية المؤرخ المعروف - أرنولد توينبي - عن قيام ونشوء الحضارات، وأرجع ذلك إلى قانون التحدي والاستجابة. وهو يعني أن الشعوب والثقافات تقابلها بعض التحديات البشرية والطبيعية، تصل أحيانا إلى حد تهديد وجودها نفسه، وبمقدار قوة وإيجابية الاستجابة والتعامل مع التحدي، تنجح وتنهض الحضارات والشعوب. والآن يعيش السودان تحدي وجود، بعد أن فقد ـ مجانا - جزءا حيويا من كيانه، فهو مطالب باستجابة في مستوى التحدي، وهذا اختبار جديد للشعب السوداني الذي يحمل تقييما عاليا لذاته لم يثبت الحدث الأخير صحته.

كانت القوى السياسية السودانية المعارضة تكرر حين تسأل عن المستقبل وماذا لديها من برامج وخطط؟ تجيب؛ انتظروا بعد 9 يوليو. ولكن جاء اليوم الموعود ولم نر جديدا. والسلطة الحاكمة تتعامل مع الواقع الجديد بطريقة روتينية ومكتبية، وكأنها تجارة التجزئة. ولم يحرك هذا التحدى العظيم، الذي هو أقرب إلى يوم القيامة لدى الشعوب الحية، ساكنا غير الكلام العاطفي والممجوج عن الوشائج والروابط التاريخية. فمن الملاحظ أن القوى السياسية والمهتمين، تعاملوا مع الأمر وكأنه قضاء وقدر، وبالتالي لا يحتاج للتفسير والتفلسف وعلينا التعايش معه وكفى. بينما هذه فرصة للتأمل والنقد، بل حتى لو وصل الأمر لحد جلد الذات، لأن الإثم عظيم. فهل يوجد وقت أفضل من هذه اللحظات لكي يجلس السودانيون معا للتفكير في مستقبلهم؟

للأسف، جاءت البداية محبطة وتظهر إصرار السودانيين على تكرار أخطائهم، ببراعة يحسدون عليها! وبعد أقل من أسبوع من الكلام المعسول (أو المعسّل)، أسفر النظام عن حقيقة موقفه من انفصال الجنوب، وبدأت حملات الانتقام والتشفي، بدءا من الإسراع في سحب الجنسية من الجنوبيين قبل التفاوض مع الطرف الآخر. ولم يرتب كثير من الجنوبيين أوضاعهم، لا في الشمال ولا في الجنوب. وبكر النظام بإغلاق الصحف التي يملكها جنوبيون، ثم جاء موضوع العملة.

وإذا كان البعض في الشمال يهتم فقط بوضع العقبات أمام الجنوبيين لإثبات عدم قدرتهم على حكم أنفسهم، فإن المهم هو هل يستطيع الشماليون أنفسهم حكم بلادهم بمثل هذه السياسات قصيرة النظر؟ وقاصمة الظهر - كما يقال- سكوت المعارضة تجاه الانفصال، فقد غابت البيانات والندوات، وطبعا المواكب. وانقسمت المعارضة إلى طائفتين، إحداهما ساكتة تماما بكماء لا تتحدث، والثانية لا تسكت أبدا، ولكن لا تقول ما ينفع الناس ولا تتبع القول بالفعل.

هذا الوضع الحرج يفرض على السودانيين ضرورة الوصول سريعا إلى عقد اجتماعي جديد، أو مشروع قومي سوداني حديث وديمقراطي، رغم تشاؤم السودانيين من مصطلح مشروع. وهذا ملتقى فوق حزبي وعبر قبلي وجهوي وفئوي، أي قومي مطلقا بدون أجندة خاصة. وهذا مطلب صعب ولكنه ضروري في الحالة السودانية، إذ يتسم الوضع السوداني بقدر ملحوظ من التشرذم والانقسام، باعتبار أن السودانيين بعد المنع الطويل للعمل السياسي العلني، فقدوا القدرة على العمل الجماعي، وصارت الانقسامات والخلافات هي القاعدة داخل الأحزاب وفي علاقاتها البينية. وهذا في حد ذاته، من التحديات، أي أن تتسامى الأحزاب فوق خلافاتها الهامشية وتعمل معا من أجل أهداف قومية. ويبدو أن المؤتمر الوطني الحاكم شعر قبل المعارضة بالحاجة إلى مثل هذه المنابر والعلاقات، ولكن بطريقته وأساليبه. وكان جهاز الأمن الوطني قد بادر بالدعوة إلى حوار، لكنه اصطدم بعدة عقبات، مثل الحديث عن سقف الحوار والتعرض لموضوع تطبيق الشريعة. وهذه الأيام تتحدث الأنباء عن لقاءات مستمرة مع رئيس الجمهورية.

وتركز اللقاءات الرئاسية مع الأحزاب التقليدية الكبيرة على قضيتين، هما: حكومة قومية أم حكومة ذات قاعدة عريضة، وهذا خلاف شكلاني، ولكنه يكشف عن النوايا والجدية. وأما القضية الثانية فهي الدستور الجديد، وهو بدوره ضرورة مع انقضاء فترة الدستور الانتقالي. ومشكلة العقل السياسي السوداني هي أنه في أحيان كثيرة يخلط بين الغايات والوسائل، ويعكس الترتيب والأولويات. فالدستور والحكومة القومية، هما في حقيقة الأمر وسيلتان لتحقيق قدر من الوحدة والروح القومي والاتفاق المفقود بين السودانيين. ومن الملاحظ أن الجميع يتعامل معها كغايات وأهداف نهائية، ومع إنجازها تحل كل المشكلات. وهذه من موضوعات الصراع حول السلطة السياسية، الذي لازم تاريخ السودان منذ الاستقلال. لذلك، أي حوار جديد لا بد أن يعمل على البحث عما يجمع السودانيين، أي المشترك القومي.

أمام السودان نهجان لا ثالث لهما: النهضة من خلال عقد اجتماعي أو مشروع قومي لسودان حديث وديمقراطي. والخيار الثاني هو الانهيار، وقد بدأ. فالبلد، بالإضافة للتفسخ السياسي والذي تمظهر في انفصال الجنوب، تتعرض كل مؤسساته التي تقيم الدولة والمجتمع للتآكل والفساد. وهذا المقال هو مجرد مبادرة للتفكير بطريقة مختلفة، تتجاوز القديم كله، وبالذات في العمل السياسي. ويمكن أن يسمى نوعا من القطيعة السياسية، غير نادمين على الماضي، فهو مجرد عبرة ودروس من الأخطاء. ومن الواضح أن الخوف ما زال يلازمنا من الجديد والتجديد، فنحن نصرخ ونلعن الأوضاع السياسية الماضية، ولكن لا نتقدم خطوة واحدة نحو إرساء الجديد والبديل المختلف. أما طريقة التنفيذ فهي في منتهي السهولة، فقد ظللنا منذ زمن ندعو إلى مؤتمر دستوري، فلتتحول هذه الدعوة إلى مؤتمر قومي لتجنب الانهيار والسقوط.

تقدمت القوى السياسية القديمة والجديدة، بالإضافة للشخصيات القومية والمفكرين، بكثير من المواثيق والمقترحات، لذلك لن تكون البداية من الصفر. والمتوقع منها في هذه الحالة أن تتفق حول مبدأ تغيير النظام والسودان، خاصة وأن النظام نفسه صار يتحدث عن التغيير والإصلاح، واقتنع باستحالة الاستمرارية. وقد يختلف السيناريو السوداني - بسبب خصوصية البلد - عن مسارات الربيع العربي، ولكن المقصد والغاية لا يختلفان. فقد أصبحت شعارات الثورة الفرنسية، مع تحوير طفيف، تجمع الكل: الحرية، العدالة والكرامة. ويمكن للمشروع أو الميثاق السوداني، أن يتبنى هذه الشعارات ويطورها ويضمنها أدبياته. لقد أهدرنا كثيرا من الحبر والكلام، ولكن لم نجمع على عمل شيء مشترك، فهل أفضل من هذا الظرف للانتقال من الحكي إلي الفعل؟

 

كاتب وباحث سوداني