لم يكن القصد البريطاني والفرنسي من رسم الحدود بين أجزاء الأرض العربية، مجرّد توزيع غنائم بين الإمبراطوريتين الأوروبيتين في مطلع القرن العشرين، بدلالة أنّ البلدان العربية التي خضعت لهيمنة أيٍّ منهما، تعرّضت هي نفسها للتجزئة. فالهدف الأول من تلك التجزئة، كان إحلال هويّاتٍ محلّية بديلاً عن الهويّة العربية المشتركة، وإضعافاً لكلّ جزء بانقسامه عن الجزء العربي الآخر.
ورافقت هذه الحقبة الزمنية في النصف الأول من القرن العشرين، محاولات فرض التغريب الثقافي بأشكال مختلفة على عموم البلدان العربية، والسعي لزرع التناقضات بين الهويات الوطنية المستحدثة، وبين الهويات الأصيلة فيها كالعروبة الثقافية والإسلام الحضاري، ثم أيضاً بين العروبة والدين في أطر الصراعات الفكرية والسياسية.
وقد تميّزت الحقبة الزمنية اللاحقة، أي النصف الثاني من القرن العشرين، بطروحات فكرية وبحركات سياسية يغذّي بعضها أحياناً المفاهيم الخاطئة عن الوطنية والعروبة والدين، أو لا تجد في فكرها أحادي الجانب، أيَّ متّسعٍ للهويّات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية.
فهويّة الأمّة العربية هي مزيج مركّب من هويّات «قانونية وطنية» و«ثقافية عربية» و«حضارية دينية». وهذا واقع حال ملزِم لكل أبناء البلدان العربية، حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.
الآن نجد على امتداد الأرض العربية، محاولات مختلفة الأوجه ومتعدّدة المصادر والأساليب، لتشويه معنى الهوية العربية، ولجعلها حالة متناقضة مع التنوع الإثني والديني الذي تقوم عليه الأرض العربية منذ قرون عدة. وأصبح الحديث عن مشكلة «الأقليات» مرتبطاً بالفهم الخاطئ للهويتين الوطنية والعربية، وبأنّ الحلّ لهذه المشكلة يقتضي «حلولاً» انفصالية كالتي حدثت في جنوب السودان.
وفي شمال العراق، وكالتي يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدان عربية. وهذا الأمر أشبه بمن يعاني من مرضٍ في المعدة، فتُجرَى له عملية جراحية في الرأس! إذ أساس مشكلة غياب «حقوق بعض الأقليات» هو الوضع الدستوري، وليس قضية «الهويّة».
ففي الولايات المتحدة نجد اعتزازاً كبيراً لدى عموم الأميركيين، بهويتهم الوطنية الأميركية (وهي هُوية حديثة تاريخياً)، رغم التباين الحاصل في المجتمع الأميركي، بين فئاته المتعدّدة القائمة على أصول عرقية وإثنية ودينية وثقافية مختلفة.
فمشكلة الأقليات موجودة في أميركا، لكنّها تُعالج بأطر دستورية وبتطويرٍ للدستور الأميركي، كما حدث أكثر من مرّة في مسائل تخصّ مشاكل الأقليات. ولم يكن «الحل الأميركي» لمشاكل أميركا، بالتخلّي عن الهوية الأميركية المشتركة، ولا بقبول النزعات الانفصالية أو تفتيت «الولايات المتحدة». عجباً، كيف تُمارس الإدارات الأميركية نهجاً متناقضاً في المنطقة العربية؟
وكيف تُشجّع على تقسيم الشعوب والأوطان وعلى إضعاف الهوية العربية عموماً؟! كما أستغرب فعلاً أن يكون بعض الأصوات العربية المقيمة في أميركا والغرب، في إطار المفكرين أو الناشطين حالياً مع معارضات عربية، تُسهم في هذه الحملة المقصودة ضدّ الهوية العربية، أو تؤيد حركات الانفصال والتقسيم لأوطان عربية، وهي تُدرك ما أشرت إليه عن خلاصات التجربة الدستورية الأميركية، وتجارب دستورية أوروبية مشابهة.
أيضاً، نجد داخل بعض الأوطان العربية، أنّ ضعف الولاء الوطني لدى بعض الناس، يجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة، وربّما لاستخدام العنف من أجل تحصيل «الحقوق»، كما نجد من يراهنون على أنّ إضعاف الهوية الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، أو من يريدون إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه.
إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من «ثلاثيات الهوية» في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين)، هو الحلُّ الغائب الآن في أرجاء الأمَّة العربية. وهذا «الحل» يتطلّب أولاً، نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحدن مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توافر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود مستقبلاً بين الدول العربية.
إنّ الدين يدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة، والعروبة تعني التكامل ورفض الانقسام، والوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين نحن من ذلك كلّه؟
إنّ ضعف الولاء الوطني يُصحَّح دستورياً وعملياً، من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام القانون في المجتمع الواحد، وبوجود دستور يحترم الخصوصيات المكوّنة للمجتمع. كذلك هو الأمر بالنّسبة للهويّة العربية.
حيث من الضروري التمييز بينها وبين ممارسات سياسية سيّئة، جرت من قبل حكومات أو منظمات أساءت للعروبة أولاً، وإن كانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هي هويّة ثقافية جامعة، لا ترتبط بنظام أو حزب أو مضمون فكري محدد، وهي تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب، يوحّد طاقاتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم.
ما حدث في العقود الثلاثة الماضية ويحدث الآن، يؤكّد الهدف الأجنبي بنزع الهويَّة العربية، عبر استبدالها بهويّة «شرق أوسطية»، بل حتى نزع الهويّة الوطنية المحلّية، والاستعاضة عنها بهويّات عرقية ومذهبية وطائفية..
وفي هذا التحدّي الأجنبي سعيٌ محموم لتشويه صورة الإسلام والعروبة معاً، من أجل تسهيل السيطرة على الأوطان العربية وثرواتها. فأن يكون العرب أمَّةً مستباحة لحينٍ من الزمن، فهذا مردّه ضعفٌ وعطبٌ في الداخل، وجبروت الخارج. لكن عدم علاج الضعف وإصلاح العطب، هو الذي سيتيح للخارج دوماً فرصة التدخّل والهيمنة وإشعال الفتن الداخلية.
المؤلم في واقع الحال العربي أنّ الأمَّة الواحدة تتنازع الآن فيها «هويّات» مختلفة، على حساب الهويّة العربية المشتركة. بعض هذه الهويات «إقليمي» أو «طائفي»، وبعضها الآخر «أممي ديني أو عولمي اقتصادي»، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة ثوب هويّتها، ولا يهمّ ما ترتديه من بعده، من مقاييس أصغر أو أكبر، فالمهمُّ هو نزع الهويّة العربية!
لقد أكّدتُ، منذ بدء الثورات والانتفاضات الشعبية العربية في مطلع هذا العام، على أهمّية التلازم بين مسائل: «الديمقراطية، والتحرّر الوطني، والهويّة العربية». فهذا التلازم بين هذه القضايا الثلاث، يصون كلٌّ منها الآخر ويُحقّق مصالح الناس والأوطان والأمَّة معاً.
فكل القوى الأجنبية التي تدعم «الديمقراطية لا غير»، تدعم أيضاً التخلّي عن الهويّة العربية وتُشجّع على التناقض مع حركات التحرّر والمقاومة، وسبيلها لذلك هو تشجيع الانقسامات الطائفية والإثنية، حيث تضعف أولاً «الهوية الوطنية»، ويكون «العدو» هو «الآخر في الداخل»، وليس الطرف المحتل أو الأجنبي.
كذلك فإنّ إضعاف «الهوية العربية» يبرّر العلاقة مع الأجنبي والاستنجاد به، كما يُوهن التضامن الشعبي العربي مع القضية الفلسطينية أو أي قضية عربية ترتبط بالمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي ومن يدعمه.
لو أنَّ كيانات هذه الأمَّة العربية قائمةٌ على أوضاعٍ دستورية سليمة، تكفل حقّ المشاركة الشعبية في الحياة السياسية وتصون الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، هل كانت لتعيش ضعفاً وتنازعاً كما حالها الآن؟
فالأوضاع السائدة الآن، كلّها أزمات تحمل مشاريع كوابيس لن يكون أيٌّ منها محصوراً في دائرته المباشرة، بل ستكون المنطقة بأسرها ساحةً لها ولانعكاساتها. مشاريع كوابيس بدأت كلّها أحلاماً من أجل «الحرية» أو «الديمقراطية» أو حقوق «الأقليات»، ثم تعثّرت في قيودِ عبوديةِ أوضاعها الداخلية. فما هو مشتركٌ بين هذه الأوطان/ الأحلام، أنّ مواقع «الحالمين» جميعهم كانت تفتقد الأرض الوطنية الصلبة، وللوحدة الوطنية السليمة، وللبناء الدستوريّ السليم، وللفهم الصحيح لمسألة «الهويّة».