ينشط هذه الأيام موسم العلاقات السودانية - المصرية، فهي حقيقة موسمية، رغم الحديث عن الأزلية، إذ يصعّد الحماس في بعض الأحيان، ويكثر الحديث عن العلاقات والمشروعات والزيارات، وسرعان ما يسود الخمود والركود حتى موسم آخر.

وقد شهدت الفترة الأخيرة نشاطا محموما وكثيفا؛ رحلات مكوكية للوزراء، وتعيين سفير جديد شديد القرب من مصر، ثم مولد الشيخ الترابي، وزيارة نائب الرئيس السوداني عثمان محمد طه المؤجلة، بعد الألغام التي زرعها الترابي. تضاف إلى ذلك أخبار مشروعات زراعة آلاف الفدادين وهدايا بمئات الروؤس من الماشية، مرورا ببقاء الحضري في نادي المريخ الرياضي.

والآن الموسم في نهاياته، وسوف ينشغل المصريون في الانتخابات، ويغرق السودانيون في مشاكلهم الاقتصادية والتعامل مع الدولة الجديدة. ومن المتوقع أن تظهر انشغالات عصيبة في الأيام القادمة، تؤثر في العلاقات لفترة ستطول. وهذه القضية أصلا تراوح مكانها منذ الاستقلال 1956. ورغم الحبر الذي سكب في الكتابة عنها ما زال فيها الكثير، فهي كتابات غالبا ما ينقصها الصدق والجدية وتلفها المجاملة والنفاق المتبادل.

يفترض في هذه العلاقة أن تقوم على أسس سياسية واقتصادية موضوعية، ولكنها للمفارقة علاقة تحكمها العقد النفسية التاريخية. ولهذا يأتي النقاش في كثير من الأحيان عاطفيا وانفعاليا، وبالتالي يتكرر ولا يحدث فيه أي نوع من التراكم والإضافة. ويعيد الطرفان الاتهامات المكرورة المتمثلة في: حساسية السودانيين وتعالي المصريين. وقد امتد انطباع حساسية السودانيين، من هيكل الأول حتى هيكل الحالي.

فمنذ أن كتب الأول "عشرة أيام في السودان"، في منتصف عشرينيات القرن العشرين، ثم كتب هيكل الحالي بعد ثورة أكتوبر 1964 في الأهرام "السودان.. ثم ماذا بعد؟"، ليتظاهر السودانيون أمام السفارة المصرية ويحرقوا العلم المصري؛ لم يتوقف الحديث عن الحساسية.

ومن ناحية أخرى، رغم تداخل السودانيين مع المصريين ومشاركتهم حياتهم بالتزاوج والدراسة والتجارة والسياحة وصداقات المهجر والاغتراب؛ يتحدث السودانيون عن تعالي المصريين عليهم.

ويصر المصريون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم على ترداد لازمة "السودانيون حساسون"! قبل سنوات هيأ المرحوم يوسف الشريف، لمجموعة من السودانيين المعارضين المقيمين في القاهرة، لقاء مغلقا مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، بقصد التعريف بالأوضاع المترتبة عن الانقلاب (30 يونيو 1989)، فقد سكت الأستاذ طوال الوقت ولم يكتب كلمة واحدة - خيرا أو شرا - عن الحدث.

واستهل اللقاء، لإغلاق الباب بلباقة، بقوله إنه قرر منذ زمن عدم التعليق على أحداث السودان "لأنهم حساسون". وقص علينا قصصه مع الرئيس السابق جعفر النميري، والذي جلس إلى جانبه في طائرة رئاسية من القاهرة حتى الدار البيضاء، دون سلام أو كلام، حتى بعدما نبهه عبد الناصر إلى الشخص المجاور له! ومنذ ذلك الوقت قلت في نفسي: لو كان هذا هو موقف هيكل، ما فيش فائدة في تغيير النظرة المصرية النمطية إلى أخرى أكثر علمية وموضوعية وتفهما. أما العقدة الثانية، فهي غياب الاستراتيجية في السياسة الخارجية المصرية، والتي تقوم على ردود الفعل والانفعال، وأحيانا الاستهانة بالسودانيين.

مثال ذلك، كان يمكن أن يهاجم الرئيس المخلوع حسني مبارك، الرئيس البشير، حتى يتم توقيف السودانيين في مطار القاهرة، وقد يمنعون من الدخول رغم حصولهم على تأشيرات دخول. ويعود مثل هذا السلوك إلى ضم ملف السودان إلى الأجهزة الأمنية، وليس لوزارة الخارجية، منذ عام 1955 حين فاجأ السودانيون حكومة الثورة المصرية بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان.

وقد كان من المتوقع تغيير هذه الوضعية، بعد الفشل الذي أصاب تلك الأجهزة في تقييمها الخاطئ لطبيعة النظام الانقلابي الحالي. فقد روجت لناصرية وقومية الانقلابيين، وباع النظام المصري - آنذاك - الفكرة لبقية النظم العربية، وحصل له على التأييد العربي، وفي النهاية مثل النظام السوداني صداعا دائما لأجهزة الأمن المصرية.

وكلنا أمل مع قيام الثورة المصرية، أن يحتل السودان والسودانيون أولوية وأفضلية في السياسة الخارجية المصرية، وأن تنظر مصر بجدية جنوبا، لأن مستقبلها هناك وليس شمال المتوسط.

ومن أهم الآفات الضارة بالعلاقات السودانية - المصرية، ظاهرة ما يسمى بـ"المختصين في الشأن السوداني". فقد عرفت الفضائيات عددا من المعلقين الذين يفتون بثقة ومجانية في قضايا سودانية مركبة، مما يشكل وعيا زائفا لدى المتلقين كما يؤثر على متخذي القرار.

ويتوقع من أي مختص أن يكون قد درس البلد أكاديميا، أو عاش فيه وكتب عن السودان بالمعايشة، وليس من خلال الانترنت. ولا يعني هذا حساسية أخرى! وأننا لا نريد أن "يتدخل" الآخرون في الشأن السوداني. فقد كنا نحتفي ـ قديما وحديثا - بكتابات عبد الملك عودة، وحلمي شعراوي، ومحمد عوض محمد، وكمال دسوقي، وعبد المجيد عابدين، ويوسف الشريف، وأمينة النقاش، وزكي البحيري، وغيرهم كثر. وأغلب "المختصين" أصدقاء ومعارف قدماء أقدرهم، ولكن أحب الحقيقة أكثر.

فنحن في حاجة إلى الموضوعية والحياد، لأن خلافاتنا وانشقاقاتنا كافية، ولسنا في حاجة لدعم خارجي، بل إلى حكماء وناصحين جادين. كان من المفترض أن تكون اتفاقيات الحريات الأربع، بداية لتكامل بين البلدين يتجاوز أخطاء الماضي.

ولكن البداية خاطئة، لأن التطبيق من جانب واحد، وهذا يمثل "حساسية" مطلوبة! والأهم من ذلك عشوائية الهجرة المصرية إلى السودان، أو نوعية المهاجرين الذين يحتاجهم السودان، وفي نفس الوقت يمثلون الوجه المشرق لمصر.

فهل السودان في حاجة إلى باعة جائلين يطوفون على الموظفات في المكاتب الحكومية والشركات، حاملين بضائع العتبة ووكالة البلح؟ أين الأطباء والمهندسون والمعلمون والمقاولون والحرفيون وأساتذة جامعة القاهرة الفرع؟ الباعة الجوالّون المصريون في السودان خلال هذه الفترة بالذات، يقدمون صورة سلبية للمصري الحقيقي. فهم يحملون ثقافة الفصال في الأسعار والشجار وقواميس الشتائم، وقد لاحظت ـ ميدانيا - عددا من الاحتكاكات في الشارع العام أمام المكاتب، بين نساء وباعة مصريين.

لا بد من تخطيط مسبق للهجرة، وكذلك وضع اعتبارات غير اقتصادية، مثل مردود التقارب النفسي. العلاقات السودانية - المصرية ليست مجرد قضية دبلوماسية أو سياسية، بل هي هم شعبي وحراك جماهيري. فالشعبان يمارسان عملية تطوير العلاقات على مستويات مختلفة في بلدان الاغتراب مثلا، والمنظمات الطوعية؛ ولا بد من تأطير رسمي وسياسات حكومية بصيرة وواعية.

هناك جانب هام للغاية ظل يرفد العلاقات باستمرار وبقوة: مساهمة الثقافة في تمتين العلاقات. وهذا عنصر مؤثر وعميق وأكثر دواما، ولم يكن ينتظر دور الدولة. وقد عرف السودان الجامعة الشعبية التي كانت تدرس الموسيقي والصحافة وكتابة القصة القصيرة.

وفي نفس الوقت، كان الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن يشرف على الملف الثقافي لجريدة "الجمهورية" المصرية الوليدة. وكان مع رفاقه تاج السر الحسن والفيتوري يشعلون سماء القاهرة شعرا، والبعثات المصرية التعليمية تساهم في مطاردة الجهل في السودان. والآن تضاعفت الإمكانات والحاجات، ولكن غابت الروح وضمرت الأحلام، وفي زمن الخيبات والإحباط تموت المبادرات وتبقى اللامبالاة.