تمر الصحافة السودانية بأزمة مركبة من الصعب أن تخرج منها سليمة، فهي محاطة بمشكلات وعيوب ذاتية، واستهداف رسمي وحزبي، مع غياب أي رؤية أو إرادة للخروج من الأزمة، بسبب تركيبة القائمين على أمر الصحافة. ومع الجمهورية الثانية السلفية، فالصحافة موعودة بالصعوبات والتضييقات والملاحقة.
وقد دشن علي عثمان محمد طه، نائب رئيس الجمهورية، الحملة الجديدة، حين وصف الصحافة ـ حسب ما جاء في أجهزة الإعلام - بأنها تثير الفتنة، مستخدماً مجدداً اللغة الدينية المثيرة أكثر للعاطفة والحماس. فكلمة "فتنة" ذات إيحاءات دينية وسياسية وتاريخية في الفضاء العربي - الإسلامي، خاصة منذ مقتل الخليفة عثمان بن عفان.
وهكذا تتحول الصحافة في العهد الجديد، من سلطة رابعة إلى مصدر للفتنة والخلاف. وهذا إنذار مبكر لأي اختلاف أو معارضة، أو نقد موضوعي أو غير موضوعي. وعلى الرغم من مسارعته لدعوة الصحفيين إلى إفطار جماعي، فإن العمل يؤكد مخطط الحملة، كما حدث في إغلاق "أجراس الحرية" ومصادرة صحيفة "الأحداث"، وتحريك قانون مشبوه وخارج وقته، للصحافة. ويأتي هذا الاستهداف الرسمي، بينما الصحافة تترنح تحت مشكلات مالية وفنية وإدارية مزمنة، لا تعرف مخرجا منها، قد تسرع بها إلى انهيار كامل.
سأبدأ بداية قد تبدو شخصية، ولكنها عامة وموضوعية. ففي نظري أن التدريس والصحافة من أشرف المهن وأكثرها احتراما في الدنيا، فلهما علاقة مباشرة بعقل ووجدان الإنسان الآخر، وهذه أمانة مقدسة يوكل إليها أرفع ما في الإنسان. أذكر عندما كان يطلب منا في المدرسة الوسطى في حصص الإنشاء الشفهي (أو الشفوي)، التعبير عن رغبة: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ كان ردي دائما: صحفي أو رحالة، بينما الرغبات الغالبة: طبيب، مهندس، طيّار، ضابط. وكان الأستاذ المرحوم محمد محمد زين يستغرب هذه الرغبة، ولكن في داخلي شعوراً دفيناً بأن الصحفي من أعظم المخلوقات بشخصية تسمى عبد الله رجب، صاحب صحيفة "الصراحة" الغراء.
واتخذته مثلا أعلى فترة طويلة، فقد كان نموذجا مبكرا للمثقف العصامي الملتزم. وقد أطلق شعارات في صحيفته، مثل: الصراحة التزام جانب الشعب؛ أو الصراحة قنصلية. وهو الذي روج اسم "محمد أحمد" رمزا للإنسان السوداني البسيط والعادي؛ أو اسم الأهالي الغبش. وكنت أفرح كثيرا حين أصادفه في برندات السوق الإفرنجي، وليست بيننا معرفة شخصية، ولكن لا أضيّع فرصة ملء العين والروح، وبالتفصيل؛ حتى أكمام الفانلة الداخلية التي تتدلى أطول من أكمام القميص قصير الكم.
وأرى في ذلك اهتماما بالداخل أكثر من المظهر، وكثيرا من التواضع والرفض والتمرد. وهناك كثير من الأسماء الصحفية المحترمة، مثل أحمد يوسف هاشم، وبشير محمد سعيد، وإسماعيل العتباني، وعلي حامد، والسلمابي، ومحجوب عثمان.. وغيرهم.
ويمكن قياس صعود أو تدهور أي مجتمع بنوعية الصحفيين العاملين في الحياة العامة، فالصحافة مؤشر حساس للتقدم والتأخر أكثر من متوسط دخل الفرد مثلا. لذلك، من يريد أن يعرف إلى أين وصل السودان، فعليه أن يتأمل القيادات الصحفية، مثل رؤساء مجالس الإدارة وأغلب رؤساء تحرير الصحف.
من أهم أسباب تدهور قيمة الصحافة، غياب الحرية وانعدام المهنية ممثلة بالحرفية وأخلاق العمل، فقد تسببت الدكتاتوريات المتتابعة بانتكاسة الصحافة، لأن أي انقلاب عسكري يستهل عهده بتعطيل الصحف والأحزاب والنقابات. وهذا التعطيل للصحف يتسبب بخسائر مادية مؤذية لرأسمالها الضعيف أصلا، يضاف إلى ذلك تشريد الصحفيين الذين يذهب بعضهم إلى مهن أخرى.
ويقوم الانقلاب بإعادة إصدار الصحف، وفي كثير من الأحيان يعيد الصحفيين السابقين كما حدث في انقلابي عبود والنميري. ولكن الانقلاب الأخير بطابعه الأيديولوجي والحزبي، كان من الطبيعي أن يحتكر المجال لأعضائه الملتزمين تنظيميا. ثم استمر في إصدار صحفه والإغداق عليها من المال العام، وقصر الإعلانات الحكومية عليها بقدر الإمكان. ويكمل التضييق بقوانين أمنية مقيدة للحريات، تطلق يد الأجهزة الأمنية في الرقابة القبلية، ومصادرة الصحف بعد الطبع لتكبيدها خسائر مالية.
يمكن تتبع التدهور المهني والأخلاقي في الصحافة السودانية ـ للمفارقة - في فترة الديمقراطية الثالثة (85-1989). فقد عرف السودان لأول مرة في تاريخه صحافة تقوم على السب والشتم والابتزاز بلا حدود، وظهرت مدرسة "ألوان" و"الراية" في الهجوم الشخصي على الرموز السياسية، بأسلوب يقتضي أن يغسل القارئ يديه بعد الانتهاء من قراءة الصحيفة. وسقط تراتب الاحترام والتوقير والتقدير، الذي كان يميز الفرد السوداني المهذب والمؤدب، وأصبح من العادي أن يسب صحفي (وليس ينتقد) أكبر رأس في البلد، ولا يلومه أو يوجهه أي قيادي عاقل من المشرفين على الصحيفة.
ولم يحدث ذلك، لسبب بسيط هو أن هذا النوع من الأخلاق الصحفية، كان تمهيدا للانقلاب من خلال اغتيال شخصيات القيادات وشغلها في معارك هامشية. ونجحت في مهمتها، ولكن الكارثة تكمن في استمرار مدرسة السب والشتم حتى اليوم، فقد وجد أولئك الشباب أنفسهم في موقع القيادات الصحفية الآن، والمسيطرين علي الإعلام، وهذا أهم أسباب أزمة الصحافة السودانية الراهنة.
تم اختراق المجال الصحفي بالكامل، عدا استثناءات قليلة، وأصبح من الصعب الحديث عن صحافة مستقلة. ولم تعد هناك حاجة للرقيب الخارجي، فقد انتشر الخوف والشك، بحيث أقام كل صحفي رقابة ذاتية على نفسه، في داخله يقوم بالمراجعة والرقابة.
لا يعد أغلب الإدارات الصحفية أن الكتابة عمل وجهد ذهني يستحق المكافأة المادية. بعض رؤساء مجالس الإدارات على استعداد لأن يدفع الملايين لقدم لاعب كرة قدم، ويرفض دفع مائتي جنيه لأقلام كتاب جادين. وكثيرا ما يتم التعامل مع المتعاونين مع الصحف، بطريقة أقل من خدم المنازل في حقوقهم، مما حرم الصحف من أقلام رصينة تثريها وتطورها. وحين يتوقف الكاتب لا يسأل عن السبب، بل تبتهج الإدارة لأنه تنازل عن مستحقاته ولن يطالب بها.. وهذه طريقة أقرب إلى السوق و"الكرين" والمواسير، منها إلى دوائر الكتابة والثقافة.
الصحافة السودانية في حاجة إلى مؤتمر قومي غير رسمي، أكثر من حاجتها لقانون صحافة يمكن أن يكون بديله أيضا ميثاق شرف ملزماً، والشرط المسبق هو رفع يد الأجهزة الأمنية عن الصحافة. وهنا لا أدري ما هو موقف المجلس القومي للصحافة من هذا التغول على اختصاصاته ودوره؟ هذا وضع يؤكد ضرورة حكم القانون فقط، وإعلاء الدستور - مهما كانت عيوبه - في كل مجالات الحياة العامة في السودان.
وهذه مداخل جيدة للتغيير والتحول الديمقراطي.