تعرضت الدولة الشمولية لعملية تخريب عظيم، ينسبه المحللون، بكثير من التبسيط، إلى الاقتصاد أو التطور السياسي، ولكن التخريب الحقيقي هو الخلل الكامل الذي أصاب منظومة القيم والأخلاق. فالسلوك الذي كان معيبا ومشينا ومخجلا قبل سنوات قليلة، لم يعد كذلك، بل صار عاديا وطبيعيا ومقبولا. ومثال ذلك، السلوك الفاسد والرشوة، والمحسوبية، والتجسس على الآخرين، والنميمة، والنفاق، والتملق، وغيرها من خصال علاقات مجتمع القهر والإخضاع.
فقد انتشر كثير من الظواهر السالبة في مجتمعاتنا، وبدأنا التعامل معها كسلوك لا يثير الاستهجان والغضب والاحتجاج، كما كان الأمر في السابق. وهنا ضعفت آليات الضبط الاجتماعي، وفي نفس الوقت كانت القوانين التي وضعتها الحكومات الشمولية، تهتم أكثر بأمن الدولة وليس بأخلاق المجتمع، حتى حين ترفع الشعارات الدينية. وتسبق هذا الإضعاف للحس القيمي والأخلاقي، عملية تدجين طويلة أو التعود على التعايش مع ما هو شاذ وكأنه شيء طبيعي وعادي.
وفي هذه المرحلة يتناقص كل ما هو أخلاقي، ويسود السلوك المنحرف في كل مكان، بحيث لا يصدم المشاعر والحس السليم. وهذا الانتشار الواسع والمقصود للانحراف والفساد، يجعله سمة للحياة اليومية ونمط معيشة، حين تغيب المقاومة والرفض والمحاسبة المتواصلة، لوقف عملية أن يكون الشاذ والمنحرف طبيعيا وعاديا. وهذا ما قصدته في العنوان: التطبيع. انتبهت أكثر إلى هذه العملية، التي تشغلني منذ فترة، عقب مقابلة صحافية أجرتها جريدة "السوداني" هذا الأسبوع، مع الرئيس السوداني عمر البشير، والتي نفى فيها تماما أي وجود لظاهرة الفساد في دولته البهية.
ووصل درجة التهكم بقوله: هل نخلق لكم فاسدين لتأكيد اتهاماتكم؟ مما يعني عدم وجود هذه الكائنات الغريبة المسماة فاسدة، على كامل التراب السوداني. وهذا قول يكرره كبار المسؤولين السودانيين لنفي التهمة عن أنفسهم وعن أنصارهم، مؤكدين تدينهم وتقواهم! وقد كان الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وبطانته، يكررون نفس النفي والإنكار، ويطالبون بوقاحة بالدليل.
ورغم التحدي والاستفزاز، جاءت التحقيقات بعد الثورة المصرية ومع بدء محاكمات كبار المسؤولين، لتكشف عن فضائح يشيب لهولها الولدان. فهل يعني هذا وجود فرق بهذا الحجم بين فهمنا وما نعنيه من فساد، وبين فهم من هم في السلطة؟ ومن أين يأتي هذا الاختلاف الشاسع في تحديد ما هو فساد؟
لم يعد مفهوم الفساد ذاتيا حسب موقف وفهم الشخص أو الجماعة، بل هناك مفهوم موضوعي تبنته منظمة الشفافية العالمية ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة في تصنيف الدول، وهناك مؤشرات دولية معتمدة في تحديد مستوى وانتشار الفساد في كل قطر. وبعيدا عن تعقيدات المصطلحات، والدخول في المغالطات لدواع سياسة، نرى أن الفساد هو اكتساب خاص لأمر عام بوسائل غير قانونية أو مقبولة عرفيا. وفي هذه الحالة يتجاوز الأمر الاستحواذ على المال العام بوسائل غير شرعية، إذ يكاد الفساد ـ غالبا - ما يقتصر على المال العام أو الممتلكات الحكومية. ولكن الفساد يمكن أن يكون سياسيا، كما يحدث من تزوير في الانتخابات، والأساليب الفاسدة في التصويت، أو وسائل التمويل الحزبي. ونجد أيضا الفساد الإداري المتمثل في الحصول غير المنضبط باللوائح، على الوظائف وسبل الترقي الملتوية، وبناء الشلل واللوبيات داخل جهاز الخدمة المدنية.
وفي إطار تعميم وتطبيع الفساد في النظم الشمولية، تفشى الفساد الأكاديمي من خلال التساهل في منح الشهادات الجامعية، وبالذات درجة الدكتوراه بسبب مكانتها الاجتماعية، والتي صارت تمنح لأسباب حزبية، وليس للقدرة الأكاديمية والكفاءة العلمية، ويتبع ذلك فساد التعيين في الوظائف الجامعية وتولي المناصب. وهذا الوضع الشاذ يكمل بالتساهل والمجاملة في الدرجات - الألقاب، مثل الأستاذية، حتى أصبحت يا "بروف" مثل يا "حاج" تماما. ولا يسمح المجال لتتبع أنواع الفساد الذي طال كل مجالات الحياة، خاصة في الاقتصاد والتجارة وقطاع المصارف، والمقاولات، وحتي القطاع الخاص..
وقد شهدت عملية الخصخصة أعلى مراحل الفساد الحكومي, فقد تم البيع "سرا" في الواقع، إذ لم تطرح المؤسسات والشركات في عطاءات ومزاد علني، ولم يخرج البيع من دائرة رجال أعمال الحزب الحاكم. وهذا وصف تقريبي لظاهرة الفساد في الواقع السوداني الراهن، وهو بلد عرف تاريخيا ببعده عن الفساد، ولكنه ولغ فيه في السنوات الأخيرة بصورة تثير الاستغراب.
السؤال الهام ليس عن أسباب استشراء الفساد، ولكن: هل صحيح أن الحكام لا يرون ظاهرة بكل هذا الوضوح، أم مجرد جزء من التضليل وإخفاء الحقيقة؟ أنا أصدق الحكام والمسؤولين، فهم صادقون، لأننا نختلف حول حدود المال العام والمال الخاص. وما ندعوه مال الشعب أو مال الدولة، يسميه الحكام الشموليون: مال الحاكم أو الحزب. وفي دولة ذات طلاء ديني مثل السودان، هو مال الله أو مال الدعوة.
ولأن الله مكّنهم في الأرض، فهم مسؤولون أمام الله، وليس أمام الشعب أو البرلمان، عن المال وتوزيعه. ومن تاريخ الدولة الإسلامية نستحضر دائما جدل أبي ذر الغفاري مع الخليفة الأموي، طالبا منه ألا يقول: مال الله، بل مال الأمة. لأنه في الأولى سيرى نفسه ظل الله على الأرض، وبالتالي له حق مطلق في التصرف فيه. وفي السودان توقفت الضوابط والإجراءات المالية منذ انقلاب 1989، واختفت إيصالات الدفع والصرف مثل اورنيك 15، وتفشت ثقافة الظروف المغلقة "ولا تعرف شماله ما أعطت يمينه".. وكل وزير أو مسؤول له مخصصات يتصرف فيها كما يشاء.
يتحدى النظام من يدعي الفساد بأن يقدم البيّنة، وهذه عملية صعبة. أولا، لأن الوزراء والمسؤولين لا يقدمون إقرارات ذمة عند تقلد الوظيفة وقبل أداء القسم. فهذا العرف العام غير معروف في السودان، وبالتالي تستحيل معرفة الموقف المالي للموظف قبل وبعد الوظيفة، وهل استغل الوظيفة أم لا؟ ثانيا، يقدم تقرير المراجع العام كل عام صورة واضحة لانتهاكات المال العام والاختلاسات. وهذه بينات قاطعة تستوجب تحرك الدولة لكي تقوم بمحاسبة موظفيها، وهذا أهم واجبات ولي الأمر في الدولة المسلمة، وأن يبادر بذلك قبل أن تطالب به الرعية.
على المجتمع المدني عدم تمرير عملية تطبيع الفساد والتعايش معه كشأن عادي، فالسكوت على الفساد يشجع الحكام على الإنكار أو تقليل خطر الفساد. وهذا مجال لمعارك شعبية هامة يخشاها أي نظام شمولي، وهنا يمكن أن يتحرك النشطاء، وبالذات المحامون والمحاسبون والنقابيون والصحفيون، وسوف يجدون مساندة منظمات الأمم المتحدة ومنظمة الشفافية، في الحصول على مساعدات فنية، وعلى المعلومات التي لا توجد إلا لدى البنك الدولي أو صندوق النقد.