كان هذا هو الهتاف الذي ردده الطلاب الإسلاميون ـ آنذاك؛ أي نهاية السبعينيات من القرن الماضي ـ في شوارع وميادين العاصمة السودانية: الخرطوم، محتفلين بعودة الإمام آية الله الخميني وانتصار ثورة إيران الإسلامية. وبعض هؤلاء الطلاب قد يكون من المسؤولين الذين استقبلوا محمود أحمدي نجاد يوم الأحد 25 سبتمبر 2011 الماضي.

وعندما هتفوا بإيران في كل مكان في ذلك الوقت، كانوا يؤيدون تصدير الثورة ويتمنون عالمية الثورة الإيرانية. فقد أثمرت الصحوة الإسلامية التي بدأت بوادر انتشارها مع حرب أكتوبر 1973، والانتصار الناقص وما تبعه من فورة نفطية؛ أول دولة إسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. وكان قيام جمهورية إيران الإسلامية، رغم أساسها الشيعي، دفعة معنوية بلا حدود للصحوة الإسلامية والحركات الإسلامية التي تمثلها. وكانت أمنية الشباب الإسلامي هي انتشار النموذج الإيراني الإسلامي في كل مكان في العالم.

وبعد حوالي عقد من الزمان تحقق بعض الحلم الإسلامي، حين استولت مجموعة من الضباط الإسلاميين على السلطة في بلد سني المذهب هو السودان. ولم تكن طريقة الوصول إلى السلطة أو اختلاف المذهب، تعني شيئا للإسلاميين، ولكن المهم تمكن المسلمين وأن يعود للإسلام مجده، كما تقول أناشيدهم.

جرت ـ كما يقال ـ مياه كثيرة في الزمن الفائت، ودخلت التجربتان السودانية والإيرانية في تحديات ومواجهات وعزلة. وانشغلت الدولتان بالصراع والدفاع عن الذات، عوضا عن تقديم النموذج المقنع لإسلام عصري يمثل أشواق الصحوة الإسلامية الحقيقية. لم ينجح الغرب في عزل النظامين، بل عزلا نفسيهما حين لم يقدما اجتهادا جديدا، في قضايا تشغل الإنسانية كلها، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقضية المرأة، ووضعية غير المسلمين، أو حتي أصحاب المذاهب الأخرى. وكانت نتيجة هذا الإخفاق أن واجه النظامان معارك في الداخل والخارج، وفقدا ميزة وحدة الجبهة الداخلية، وهما في أشد الحاجة إليها عندما يكون العداء مع الخارج مشتعلا.

ولا يكفي في هذا الوضع، قذف تهم العمالة والخيانة على المواطنين المعارضين. هذا خلل عظيم في تركيبة وبناء النظامين: جمع المواطنين حول سياسة قومية موحدة. ومن الواضح الإهمال الكامل للأوضاع والمشكلات الداخلية. وهذا شكل للسياسة القديمة القائمة على شعار: لا صوت يعلو صوت المعركة! وهي سياسة تهدف إلى الإسكات التام لأي صوت معارض أو مخالف، باعتبار أن الدولة أو الأمة في حالة حصار وعدوان من الخارج، وأي صوت أو موقف معارض في هذه الظروف يصب في مصلحة العدو، وبالتالي يستحق كل العنف والعسف والقمع. وقام النظام بانتهاج أغرب سياسة عرفتها البشرية، وهي أن يكون المسرح الأساسي للعمل السياسي، هو العالم الخارجي كله، وليس الوطن. ومن هنا جاءت أهمية زيارة نجاد للسودان.

ينطبق على الزيارة القول: إن المصائب يجمعن المصابينا! فقد تكرر الحديث عن المهددات التي تواجه البلدين، وتعود كلها للخارج. وفي تحليل للمشكلات السودانية الداخلية الراهنة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، لا يتحمل النظام السوداني أي مسؤولية، نقرأ: "بؤر التوتر في الخرطوم لا يمكن فصلها عن آلية اليد الدولية، وعبثها في الداخل" (صحيفة "ألوان" السودانية 25/9/2011)، رغم الحديث مباشرة عن تضخم الاقتصاد السوداني وعجز الميزانية العامة إثر خروج عائدات البترول؛ وهذا ما يهم الداخل السوداني. ولكن الطرفين تهربا من مواجهة المشكلات ولم توقع أي اتفاقيات، رغم أن السودان كان يتوقع الكثير من الدعم الاقتصادي من إيران النفطية.

أخطر ما في الزيارة، هو إعلان عودة السودان للحديث عن دوره الرسالي، وهو مثقل بالمشكلات والأزمات الداخلية المتفاقمة. فقد وعدا بالتزامات أكبر من قدراتهما، يقول البيان الختامي: "إيران والسودان سيقفان معا دفاعا عن العالم الإسلامي واستقلال المنطقة". وكان السودان قد تورط في بداية تسعينيات القرن الماضي في سياسة أممية إسلامية، من خلال المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، ثم فتح حدوده لكل الإسلاميين المعارضين في العالم، ومنحهم جوازات سفر سودانية (بعضها دبلوماسي لراشد الغنوشي) واستضاف أسامة بن لادن وكارلوس.

 ولكن النظام لم يصمد أمام الضغوط، لأنه لم يكن جادا أصلا، وتراجع بطريقة غير منتظمة ومخجلة عندما رفعت أميركا الكارت الأحمر. فقام الترابي، عرّاب الأممية، سريعا بالتخلي عن أفكاره، ثم أعقبه الجهاز التنفيذي بإغلاق مقار المؤتمر الشعبي وإيقاف الاجتماعات واللقاءات. ولم يتوقف عند هذا، فقد قام النظام بطرد ابن لادن وجماعته خارج السودان، دون أن يصفي أعماله التجارية ويرتب حقوقه، وتبع ذلك تسليم كارلوس للمخابرات الفرنسية. ودخل جهاز الأمن السوداني في صفقة مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، سلمها بموجبها قوائم بمعلومات شاملة عن الإسلاميين الذين تعاملوا مع السودان.

هل يمكن أن تتوقع إيران بعد كل هذا التاريخ السوداني في العداء للإمبريالية، أن تجد في السودان حليفا يعتمد عليه؟ بادر بعض قادة ومنظري النظام بإظهار أن "ثوابت" النظام الأولى ما زالت صامدة. فعاد أمين حسن عمر لتأكيد نجاح المشروع الحضاري، بينما كان هو أول من نقده في هيئة الأعمال الفكرية. ويشير نافع علي نافع إلى أن الشريعة هي المستهدفة. وهذا حديث لطمأنة إيران أن شعلة الأيديولوجيا الإسلامية ما زالت مشتعلة في السودان. ولكن إيران لن تتمسك كثيرا، وسوف تتجاوز التدقيق في جدية النظام السوداني، لأنها في حاجة ملحة لبديل عن الأسد وسوريا.

يرى البعض في هذا التحالف الجديد حصارا لمصر والخليج، ودار حديث عن تهريب إيران لأسلحة وصواريخ من ليبيا. ورغم النفي القاطع لهذا الأمر، فهو دليل قلق وتخوفات. وأخشى أن يكون النظام السوداني وهو يعمل على تصدير أزماته للخارج، يقع في مطبات قاتلة تكشف عن حقيقة ذكائه وقدرته على المناورة والخداع. ولكن من ناحية أخرى، لم يعد النظام راغبا في مناقشة أي قضية داخل البلاد، فهو يفضل الوسطات من الخارج، وجماعات الحكماء، وأصدقاء الإيغاد، ومنبر الدوحة، وأبوجا ونيفاشا.

وهذا الاعتماد الكامل على الخارج له مقصد شديد الخبث، وهي حرمان القوى الوطنية الديمقراطية من المشاركة في معالجة وحل القضايا القومية، رغم أن هذا العزل والتهميش كان من أهم الأسباب التي ساهمت في فشل اتفاقية السلام الشامل، التي انتهت بالانفصال والتوترات الحالية.

وهذه سياسة خارجية ضالة عن أصلها، وشديدة الاغتراب والغربة، لأنها تتهرب للأمام بعيدا عن واقعها ومشاكلها، وتلجأ للشعارات والأوهام والدعاية والتهويش، لتراوح الأزمات في مكانها دون حل.