يتحدث النظام السوداني مع الأحزاب السياسية، عن حكومة ذات قاعدة عريضة، ويناور ويماطل كالعادة، بينما الحياة اليومية تزداد ضيقا وبؤسا وعنتا لن تجدي معه عمليات التوسيع الحكومي، طالما لم تخاطب القضايا الحيوية الحقيقية. وتبدو الساحة السياسية السودانية أقرب إلى الغرائبية السحرية، منها إلى الواقع والحياة الملموسة. وهذا أدى إلى شعور قوي بأن ما هو موجود، حكومة افتراضية، رغم أنها تتحدث عن حكومة إلكترونية.

وهي حين تتحدث عن الاقتصاد، والحريات، والديمقراطية، وتطور التعليم، والثقافة والفنون، والثورة الزراعية، وحتى إنجازات الرياضة؛ لا يدرى هل تقصد السودان الذي يعيش فيه الشعب السوداني، أم تتحدث عن بلد تحكمه في كوكب آخر؟

هذه معضلة حقيقية تجعل من الصعب فهم مشكلات السودان، وبالتالي العمل على حلها، إذ لا بد من أرضية مشتركة يتفق فيها الناس على وجود مشكلة أو أزمة، ثم يختلفون حول الدرجة، أي مدى اتساعها أو انتشارها أو عمقها. وقد تختلف الأطراف حول أسباب الأزمة، ولكن ليس حول وجودها أصلا. وهذا لا يعني نسبية الحقيقة والواقع، ولكنه مثال ناصع الوضوح لكيف يمكن أن يحكم شعب بأكمله، بالمغالطات وتزييف الوعي والواقع.

وما زال الناس مندهشين للحوار الذي جرى على الهواء مباشرة حول الأزمة الاقتصادية، بين الأستاذين ربيع عبد العاطي والطيب زين العابدين، وتتساءل أين يوجد هذا السودان الذي تحدث عنه ممثل الحكومة، وهم يعيشون فيه فعليا؟ وبالطبع يحتار الشعب: هل هذا ما تراه الحكومة حقيقة أم ما تتمناه؟ وبين الأمنيات والواقع يضيع عمر الشعب السوداني، ويصادر النظام مستقبله، بعد أن فرط في تاريخه وخرّب حاضره. ولا بد من وقفة جادة، بعيدا عن السياسوي الفج الممارس، والضجيج العاجز الذي يملأ الورق والمواقع الاسفيرية.

بداية، لا بد من تفسير ظاهرة الحكومة الافتراضية، والتوغل في المغالطات السافرة والجريئة، وكيف نمت وتطورت وصارت طبيعة ثابتة للنظام؟ يبدو أن مثل هذه النظم لا تعترف بأنها تحكم شعبا، وعليها واجبات ومسؤوليات لا بد من القيام بها.

فالنظام الذي جاء عن طريق القوة والانقلاب على سلطة شرعية سابقة، يسعى لتأكيد وهم أنه لم يفوضه الشعب ولا يحتاج لتفويض شعبي، وتكفيه الشرعية الثورية التي أوصلته للسلطة قفزا على صناديق الانتخابات والبرلمان. وما الفجاجة التي خاطب بها العقيد التائه القذافي، شعبه؛ إلا الدليل الدامغ على السلوك الشاذ لمثل هؤلاء الحكام. وهذا السلوك يهدف إلى حرمان الشعب ــ بطريقة غير مباشرة ــ من حق المحاسبة والمساءلة.

وهم يحتقرون كل ما له صلة بشعبهم، حين يتعلق الأمر بالسياسة والتفكير وتدبير أمور الحكم، ويظهرون عدم احترامهم لرأي الشعب فيهم، وفي سياساتهم. وأقرب مثال وأشده دلالة: الاحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان. فحين يقوم الشعب ومجتمعه المدني، والذين يقع عليه عبء الانتهاكات من تعذيب وسجن وإذلال، بكشف تلك الممارسات المخجلة، يتجاهل النظام أصواتهم ويتهمهم بالعمالة والخيانة.

ولكن حين تأتي نفس الاتهامات من منظمات خارجية ودولية، مثل منظمة العفو الدولية أو مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ينزعج النظام ويشكل اللجان الوهمية للتحقيق. ونتابع كل عام السيرك الذي ينصبه النظام في جنيف في الأمم المتحدة، بهدف إبطال صدور أي قرار ضد سجل السودان في حقوق الإنسان. ومن العجيب أن النظام السوداني يهتم بصورته في الخارج، ولكن لا يهتم مطلقا بما يقوله السودانيون عن الفساد وانحرافات المسؤولين!

تتسم علاقات مثل هذه النظم مع شعوبها، بقدر كبير من الانفصام المرضي، أو علاقة حب ـ كراهية حسب المضمون الفرويدي. فهي تحتاج هذه الشعوب لكي تؤيدها وتسير لها المواكب والتظاهرات، وفي نفس الوقت لا تريدها أن تشارك في اتخاذ القرارات. وفي أحيان كثيرة، يصف النظام السوداني المعارضين له بالمتمردين وقطاع الطرق والمرتزقة والشماسة. وقبل فترة وصف مستشار الرئيس للشؤون الخارجية، السودانيين في الخارج بالمتسولين.

وقبل أسابيع، طلب والي الخرطوم، من غير القادرين على تحمل أعباء الحياة في العاصمة، أن يعودوا إلى قراهم ومناطقهم الريفية. وقد جاء هذا الحديث والدعوة في سياق مناقشات تدهور الخدمات ونوعية الحياة في العاصمة القومية. وهذا حل أقرب لتصورات مالتوس عن الزيادة، وأقرب لتعامل هتلر مع اليهود والغجر في ألمانيا.

ومن البديهيات أن جماعة سياسية حين تسعى إلى السلطة والحكم، تكون لها رؤى وبرامج لتحسين أوضاع المواطنين المادية والروحية. ولكن النظام السوداني يبدو أنه أراد السلطة من أجل السلطة في حد ذاتها، مثل نظرية الفن للفن.

وفي هذه الحالة، تصبح السلطة والحكم هدفا مطلقا ومجردا، غير مشروط بغايات معينة كالتنمية أو التقدم مثلا، خاصة حين تطمئن وتستريح ولا تشعر بخطر حقيقي على وجودها. وهذه ليست تهمة مرسلة مجانا، فلدينا دليل لا يرد، في تعامل النظام السوداني مع الأزمة الاقتصادية الراهنة، وهي أزمة أضحت مستعصية بسبب التجاهل المتعمد، وأزمة خانقة طالت حتى الطبقات الوسطى العليا.

ويؤكد النقاش الرسمي للأزمة، حقيقة الاستخفاف بعقل الشعب السوداني، وقد تجسد ذلك في الأفكار المطروحة، وبعض الممارسات. فقد ظهر نفس الخبراء الذين قالوا بعدم تأثير انفصال الجنوب على الاقتصاد السوداني، لكي يعددوا أضرار تلك الخطوة، وجميل أن يحل علم ما محل السياسة والأيديولوجيا. ويطرح تفسير اقتصادي ـ ديني أخلاقي، يرجع الأزمة إلى تبرج الفنانات السودانيات، وإلى الأغاني الهابطة، وإلى ابتعاد الناس عموما عن صحيح الدين.

وفي الممارسات، قادت الحكومة مسرحية مقاطعة اللحوم، تحت شعار «الغالي متروك»، وهو شعار خاطئ ومقلوب، لأن الدول الجادة تقوم برفع مستوى حياة مواطنيها ودخولهم، ليصبح شعارهم «الغالي مطلوب»، لأن قوتهم الشرائية ارتفعت ويبحثون عن السلع الجيدة الغالية.

وفي هذه الأثناء تدهور سعر الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، فانطلقت حملة ضد تجار العملة. وتزامن مع ذلك، القبض على «لصوص» سرقوا ما يفوق الـ200 مليون جنيه، جلها من العملات الأجنبية، من رئيس القطاع السياسي في حزب المؤتمر الوطني. واهتم الناس بالقبض على السارقين، ولم يسأل أحد عن أسباب تجول هذه المبالغ خارج النظام المصرفي؟ الإجابة تساعد في الوصول إلى تجار العملة الحقيقيين، ومصدر الأزمة الاقتصادية.

أما المخطط الكبير والخطير للإلهاء والاستخفاف، فقد كان طرح مشروع الحكومة ذات القاعدة العريضة في هذا الوقت. وقد كان الهدف شغل قوى المعارضة والأحزاب السياسية بالمشاركة وتوزيع المقاعد الوزارية، والأهم من ذلك التسبب في الانقسامات الداخلية. ورغم خروج تظاهرات محدودة وعفوية، إلا أن النظام نجح في تعطيل القوى المؤثرة.