تتميز علاقات كثير من السودانيين بتشابكات معقدة في التعامل مع ليبيا القذافي ومع الليبيين، انتهت مرات عدة بانتزاع العاملين السودانيين ووضعهم على الحدود المصرية، بلا حقوق ولا مقتنيات فهم لم يأتوا بها من بلادهم، وهذه حقيقة ولكنها عرق جبينهم كما يقال. أما القيادات السياسية، وبالذات المحافظة والتقليدية، فقد عانت من مزاجية العقيد وعشوائية تعامله، ولكن "ذهب المعز" كان يجبرها على أن ترضى بالهم وبما لو رآه الواشي لقرت بلابله.
أما النظام الحالي فقد كان في حالة رعب دائم من العقيد، فهو يعلم بتدخله السافر في الشؤون الداخلية السودانية، ولكن كان في فمه ماء.
وحتى في أحداث أم درمان، وحين زل لسان مستشار الشؤون الخارجية وجاء ذكر ليبيا عرضا، فقد اضطر لبلع كلماته. وفي قلب الخرطوم له "برج الفاتح"، وفي الأطراف حي "عمر المختار" وقاعة في المدخل الغربي لجامعة الخرطوم.
وعلى المستوى الشخصي، عانيت لمدة خمسة شهور في ليبيا ـ رغم عقدي الطويل مع الجامعة ـ من السهر، فقد كان الطلاب الثوريون: موسى كوسا وأحمد إبراهيم وعمر السوداني، يقومون بإيقاظنا في أي وقت ليلا، لأن العقيد يريد أن يناقش "المشكل الاجتماعي" في الكتاب الأخضر، مع الأساتذة.
فهو لا ينام، وإنسان ليلي تماما. وكنا في متناول أيديهم، لسبب يبدو غريبا، فقد كنا نسكن في داخليات الجامعة. لماذا؟ لأنه بعد قرار البيت لساكنه، رفض الملاك تأجير منازلهم! وهنا اضطرت الجامعة لإسكان الأساتذة بأسرهم في داخليات الطلبة. وهذا طبعا يسهل -أيضا- مراقبتهم ومتابعة تحركاتهم.
لم تكن أخبار ليبيا السعيدة والحزينة بالنسبة لي مجرد أحداث وأنباء، ولكنها مشاعر كثيرة مختلطة ومتداخلة. ومما أثار الشجن والتذكر المر، كيف استطاع العقيد بكل نزقه وجنونه الفالت، أن يجتذب شخصيات ذكية مثل بابكر كرار، وعبد الله زكريا، والصادق المهدي، وحسين الهندي، وعثمان خالد مضوي؟ وقد يفسر جنونه وعشوائيته أسباب هذا الجذب، فالرجل كان كالإعصار ولا يعرف الحدود والأعراف، ويمكن أن يذهب إلى أقصى مدى حين يقتنع بأمر ما.
ولكن القيادات السودانية قدمت تنازلات مبدئية، وكان عربون صداقتها غاليا. فلا أدري كيف بررت أن يقوم دكتاتور بمساعدة قوى "ديمقراطية" لكي تسترد الديمقراطية والحرية في بلدها؟ ألم يروا كيف يحكم الشعب الليبي وكيف كان العقيد القذافي يتعامل مع معارضته التي أسمى أفرادها "الكلاب الضالة"؟ والآن يقفز الأحياء من الساسة السودانيين على هذا التاريخ، معلنين الفرحة بموت القذافي ومؤيدين الثورة، ومستعدين لتقديم خبراتهم في الشورى والديمقراطية للثوار، كما قال مصطفى عثمان إسماعيل مستشار الرئيس للشؤون الخارجية.
لا أدري هل سيوزعون عليهم كتيبات مثل: تعلم الفرنسية في أسبوع! تقول لليبيين: كيف تقسم وطنك في أقل من ستة أعوام؟ كيف تنشئ بيوت أشباح في شهرين؟ كيف تهجّر ملايين من مواطني بلدك في وقت قياسي؟ كيف تحول سلة غذاء محتملة إلى سلة تسول ومجاعات وغلاء فاحش خلال بضع سنين؟
هل كان العداء للنميري يبرر الاستقواء بالخارج - حسب اللغة السائدة - ضد الوطن الأم، حتى ولو كان الحليف قوميا عربيا أو مسلما؟ كان الإسلامويون السودانيون هم عراب التحالف مع القذافي، بحكم وضعيتهم المميزة في الجبهة الوطنية. وحافظوا على ودهم "الظاهري" حتى قبل شهور قليلة، رغم ثورة 17 فبراير، لأنهم لم يكونوا متأكدين من انتصارها، لذلك هرعوا في الأيام الأخيرة وبمبالغة واضحة، يحاولون محو التقاعس بأثر رجعي.
ويقول التاريخ إن قيادة الإخوان المسلمين كان لها فضل نقل الجبهة الوطنية من السعودية إلى ليبيا. يكتب "مكي": "أخذ خطاب الجبهة الوطنية يمتد إلى ليبيا التي كانت غير راضية عن نهج نميري تجاه اتفاقية الوحدة الموقعة في طرابلس(...)، مع أن قيادة الأنصار كانت متوجسة من الدخول في حوار مع ليبيا، لأن أياديها تلطخت بدماء الأنصار في موقعة الجزيرة أبا... إلا أن الأستاذ عثمان خالد مضوي الأمين العام للجبهة، مضى للحوار مع الليبيين.
حيث أرسل مذكرة إلى العقيد القذافي عن طريق سفيره في السعودية، مبرزا أخطار اتفاقية أديس أبابا على مسار حركة العروبة والإسلام، وأردف تلك الرسالة بمذكرة أخرى تشيد بموقف القذافي في دعمه لنظام عيدي أمين.
وجاءت المذكرة الثالثة في 22 مارس 1973، في محاولة لتعريف القذافي بالجبهة الوطنية" (الحركة الإسلامية في السودان 1969-1985 ـ الخرطوم، الدار السودانية، الطبعة الثانية، 1999: 67). وللقارئ أن يتأمل في بؤس أسباب التحالف: معارضة اتفاقية جلبت السلام للسودان، ومساندة دكتاتورية مستوحشة في أوغندا. ولكن كله يهون في سبيل إسقاط النميري!
لم يكن الصادق المهدي أقل تهافتا في خطة التقارب مع ليبيا، رغم التحفظات التي أوردها "مضوي". فقد شعر ببرود العلاقة، بل توترها مع السعودية، وفي مارس 1972 كتب رسالة من المعتقل في بورتسودان، يقترح على المرحوم عمر نور الدائم، موضحا: "إننا نتفق على انطلاق الالتزام القومي العربي من قاعدة إسلامية، ونتفق على أهمية العلاقة الإفريقية العربية، ونتفق على اشتراكية المؤمنين، ونقف ضد الاشتراكية الملحدة". وكتب الصادق يقترح على عبد الحميد صالح، القيام بإجراء مماثل (فؤاد مطر: المصالحة الوطنية الأولى - انتكسوها أم انتكست؟
بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999: 80). وكان بابكر كرار يرى أن ما يحدث في ليبيا فتح جديد للعروبة والإسلام، ويعتقد أن ثورة الإمام المهدي "كانت نتيجة أساسا وفي كليتها لتعبئة الشعب السوداني تعبئة عقدية واقتصادية واجتماعية وسياسية، لمقاومة الاحتلال والاستعمار.. رفع راية الجهاد لتحرير العالم الإسلامي من الظلم والاستعمار" (بابكر كرار - سيرته وفكره: إعداد نادية يس عبد الرحيم. الخرطوم، جامعة إفريقيا، 2005: 180).
كان هذا هو مدخله في تقديم أنصار المهدي لليبيين، وتحمس لجمع عمر نور الدائم مع القيادة الليبية، ونجح في ذلك. ودعا نور الدائم كلا من حسين الهندي وعثمان خالد للمشاركة.
وأخيرا، تم اجتماع في طرابلس ضم ممثلين للقيادة الليبية والمعارضة السودانية، واتفقوا على ما يلي:
- تعاون بين السلطة الليبية والمعارضة السودانية، لإسقاط النظام الحاكم في السودان بكل الوسائل.
- بعد إسقاط النظام، تقوم وحدة اندماجية سودانية - ليبية.
- يقوم تنظيم سياسي واحد في البلدين، يسمي المؤتمر الشعبي الاشتراكي.
- تطبق في الوطن الجديد الشريعة الإسلامية.
علينا أن نتخيل مصير السودان لو نجحت محاولة انقلاب عام 1976، وهل ينطبق على السودان القول: من لم يمت بالسيف مات بغيره؟ وقد متنا بما هو أفظع من السيف: انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989. فقد كان السودان بسبب أطماع السياسيين، معروضا على مائدة القذافي، واليوم يتبارون في إبداء الفرحة لموته الشنيع، ويتسابقون على ود الثوار الليبيين، معتمدين على ذاكرة مثقوبة: هل في رؤوسهم أم رؤوسنا؟