تتزامن في هذه الفترة قضيتان عالميتان تجمعان بين السياسة والاقتصاد، بين المطالبة بالديمقراطية السياسية في بعض البلدان، وبين الحاجة للديمقراطية الاجتماعية في بلدان أخرى، بين ابتغاء العدل السياسي وبين السعي للعدل الاجتماعي، بين محاولة تأمين لقمة العيش وبين التساؤل عن ضمانة حرّية العيش نفسه. فالجوع والخوف هما أسوأ ما يُبتلى به فردٌ أو جماعة.

قد تكون الحروب بين الدول هي المسؤولة أحياناً عن وجود حالتي «الخوف والجوع»، لكن قد تحدث الحروب أيضاً بسبب تفاقم مشكلة «الخوف من الآخر»، كما قد يشهد العالم حروباً إقليمية لأسباب اقتصادية. فهي حالات سببية لحروب، كما هي حصادٌ طبيعي للحروب نفسها.

وإذا كان مفهوماً ما تخلّفه الحروب والكوارث الطبيعية من حالات الجوع والخوف، فإنّ من غير المبرّر أن نراها (هذه الحالات) تطرأ على مجتمعات لا هي في حال حرب ولا تعيش مخلّفات كارثة طبيعية. فالجوع والخوف في هذه المجتمعات هما محصّلة لغياب العدل السياسي والاجتماعي، ولأساليب القهر التي تمارسها الحكومات ضدّ شعوبها، أو لانتشار الفساد والاحتكار وسوء توزيع الثروات الوطنية، وانعدام التخطيط الشامل اقتصادياً واجتماعياً، ولشراسة المستفيدين من نظم الحكم الفاسدة.

ولا أعتقد أنّ الديمقراطية وحدها هي العلاج السحري الناجع لحالتي الجوع والخوف، فليس بالضرورة أن ترتبط الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية وبالأمن الاجتماعي والقيم الأخلاقية. ولعلّ خير مثال على ذلك، الأنظمة الديمقراطية الغربية عموماً، التي حرصت على النظام الديمقراطي داخل مجتمعاتها، بينما أباحت لنفسها استعمار واحتلال شعوب أخرى. فهي ديمقراطيات عنصرية لأنها استباحت شعوباً أخرى لتحقيق مصالح تلك «الديمقراطيات»، وهي حتّى غير عادلة في مجتمعاتها أحياناً، كما هو معظم «الديمقراطيات الغربية» التي لم تقم أصلاً على العدل الاجتماعي بين الناس، حيث ما زال القوي الغني يأكل الضعيف الفقير، وهذا سياق طبيعي للترابط الحاصل في الغرب بين الديمقراطية في نظام الحكم السياسي، وبين مقوّمات الاقتصاد الرأسمالي القائم على تشجيع الاستغلال والاحتكار.

ولم يتحقّق التقدّم العلمي والتكنولوجي في الغرب ورفاهية العيش في مجتمعاته، حصيلة وجود الديمقراطية فقط، وإنّما أيضاً حصيلة أحد أمرين أو الاثنين معاً: السيطرة على شعوب أخرى ونهب ثرواتها، والنظام الاتحادي التكاملي الذي أوجد قدرات اقتصادية هائلة. فالمواطن الأميركي قد يعجز عن العيش الكريم في ولايةٍ ما، فيغادر إلى ولاية أميركية أخرى، كذلك في أوروبا الموحدة الآن، حيث يتنقّل الأوروبيون بحرّية كاملة بين دول الاتحاد الأوروبي، فتبقى الكفاءات والثروات الفكرية والمادية والمهنية داخل المجتمع نفسه. وهذا مفقودٌ في المنطقة العربية، حيث تهاجر الكفاءات والأموال العربية من أرض العرب إلى دول الغرب.

إنّ «الديمقراطية والاتحاد» هما الآن في الغرب وجهان لمشروع نهضوي واحد لمستقبل أفضل، بينما سعت الدول الغربية عموماً إلى المساهمة في تجزئة القوى الدولية الأخرى المنافسة لها، أو المستهدفة منها. لكن ثبت أيضاً عدم قدرة «الديمقراطية والاتحاد» وحدهما على ضمان التقدّم والنهضة في ظلّ غياب العدل الاجتماعي، بدلالة ما يحدث الآن من حراك شعبي كبير في الدول الغربية، ضدّ طبيعة الأنظمة الاقتصادية والمالية الحاكمة.

ولقد راهن البعض، أو اعتقد خطأً، أنّ «العولمة» هي التي تملك مفتاح حلّ الأزمات الاقتصادية في العالم، وبأنّها ستؤدّي إلى تخفيف حدّة معاناة الشعوب، فإذا بالدواء المفترَض يتحوّل هو نفسه إلى مساهم في انتشار الداء في أكثر من بلدٍ وقارة.

إنّ العالم يعيش حالةً من الفوضى وصراع المفاهيم، حول هويّة العصر الذي دخلته الإنسانية بعد انتهاء الحرب الباردة، التي انتهت بانهزام وانهيار قطب المعسكر الشيوعي (الاتحاد السوفييتي)، مقابل فوز وتعزيز قدرات المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

فبسقوط المنافس الشيوعي العالمي، بقيت «الرأسمالية» وحيدة في طرحها لنموذجٍ سياسي واقتصادي وثقافي متكامل، لا يمكن أخذ بعضه دون البعض الآخر. فالصيغة السياسية للأنظمة الليبرالية، هي الوعاء السياسي لمضمون «الاقتصاد الحر» والمنافسة التجارية الحرة. ولأنّ «المنافسة الحرة» أساس في النظرية الرأسمالية، فإنّ حواجز الحدود والثقافات، يجب أن تسقط أمام روّاد الرأسمالية من أصحاب شركات كبرى ومفكرين واقتصاديين وسياسيين. كذلك، فإنّ «المنافسة الحرة» تعني المنافسة وسط أبناء المجتمع الرأسمالي نفسه، وتكون نتيجة المنافسة محكومة بقانون «البقاء للأقوى».

لذلك، جاءت «أطروحة العولمة» كنتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه، والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.

وقد تختلف أساليب «عولمة» هذا الفكر ومحاولات نشره من عصرٍ إلى آخر، من استعمار مباشر (كما كان في الماضي) إلى محاولة التحكّم في القوى الفاعلة داخلياً (كما هو في الحاضر)، لكن يبقى الهدف عند دعاته: تأمين مزيد من الأسواق للاستهلاك، ومزيد من الثروات للاستيلاء عليها، وتقنين العلاقات داخل المجتمعات وبين بعضها البعض، على أساس أوضاع ثقافية وسياسية واقتصادية تصون قوانين «الرأسمالية» ووجودها ودورها.

وستضطرّ الأنظمة الرأسمالية الآن، والتي يُعاني معظمها من أزمات حادة، إلى مراجعات كبيرة في أفكارها وممارساتها، وربّما إلى تعديل مفاهيم جوهرية في طبيعة «الاقتصاد الحر»، بحيث لا يُترك «السوق» وحده كمرجعية، وإلى اعتماد التدخّل الحكومي في مراقبة حركة «السوق»، والتخطيط الاقتصادي الشامل الذي يجمع بين مسؤولية «القطاع العام» ودور «القطاع الخاص». وهذه مفاهيم تنحو نحو صيغة «الاشتراكية الاجتماعية» التي تعتمدها الآن بعض الدول، والتي تقوم على الجمع بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، وبين «الاقتصاد الحر» من جهة، ورقابة الدولة وتخطيطها الشامل من جهة أخرى.

لقد كانت دول العالم الثالث (وهي المنطقة العربية وإفريقيا وأميركا اللاتينية وقسم كبير من آسيا) تعيش، خلال حقبة صراع «المعسكر الشيوعي» و«المعسكر الرأسمالي»، همّاً يختلف في طبيعته عن هموم دول «العالم الأول» الغربي و«العالم الثاني» الشرقي، فقد كان الهمّ الأول لدول العالم الثالث، هو التحرّر الوطني من السيطرة الاستعمارية المباشرة، التي ميّزت القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

إذ إن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل، حينما يكون هذا الداخل متحرّراً من سيطرة الخارج. لكن عندما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون بما يتناسب حصراً مع مصالح المحتلِّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.

عربياً، فإنّ التكامل بين غايات الديمقراطية والعدل والاتحاد، هو ضرورة لازمة لأي نهضة عربية منشودة. فالحرّية، بمعناها الشامل، هي التي تحتاجها الأمّة العربية. الحرّية التي ترتبط فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج، مع مثيلتها في التحرّر من الاستبداد الداخلي والحكومات الفاسدة. الحرّية التي يمتزج فيها تطبيق الديمقراطية السياسية مع العدالة الاجتماعية في كل بلد عربي، حتى تستطيع الأمّة أن تتكامل لاحقاً فيما بينها، فيكون تكامل أقطارها على أساس ديمقراطي سليم، هو الضمانة لتكون أمَّةً «آمنة مطمئنّة يأتيها رزقُها رَغَداً من كلِّ مكان»، بعدما ذاق معظم شعوبها «لباس الجوع والخوف» بما كان يفعله الحكّام أو المحتلّون!