طرح فوز حركة النهضة الإسلامية في تونس، التساؤل المفتوح بلا إجابة حاسمة، ولا أدري هل هذا مقصود أم فعلًا لا توجد إجابة نهائية؟ وهو؛ هل الحركات الإسلامية أو حتى فهم الإسلام شيء واحد موحد؟ ففي بعض المواقف يبدو المسلمون والإسلاميون والإسلامويون، الأكثر رفضاً لوضع المسلمين والإسلاميين، في سلة واحدة بلا تمييز. ويظهر هذا الموقف خاصة مع تهم الإرهاب والتطرف والتعصب، وعدم القدرة على التغيير. ويري البعض هذا التعميم مغرضاً، يقصد تقديم الصورة السلبية للمسلمين، كما يرجعون ما يسمى بالإسلاموفوبيا إلى مثل هذه التصنيفات المنحازة ضد المسلمين. أما في مواقف الانتشار والانتصار والفوز، فيقوم الإسلاميون أنفسهم بالتعامل مع الحركات والأحزاب الإسلامية وكأنها شيء واحد.
فالآن يتم الحديث عن فوز حركة النهضة الإسلامية التونسية، وكأن هذه الحركات كلها نسخ مطابقة للنهضة، ولا توجد أي فوارق بينها طالما أضافت صفة إسلامية لنفسها. وهذه فرضية غير دقيقة، لاختلاف حركة النهضة التونسية عن الإخوان المسلمين المصرية (حتى لو سميت الحرية والعدالة)، عن الجبهة الإسلامية القومية السودانية. والأخيرة تمثل إحراجا لكل الحركات الإسلامية، التي تحاول التصالح مع الديمقراطية وحقوق الإنسان والموقف من المرأة.
ليس من الصدق والأمانة أن تقوم أي جماعة أو حزب أو حركة إسلامية أخرى غير تونسية، بتجيير انتصار حركة النهضة لصالحها، أو أن تتماهى مع حركة النهضة وتعتبر نفسها والنهضة شيئاً واحداً. هنالك اختلاف جذري يطال قيادة الحركة، والدولة؛ وهو اختلاف في سياق تاريخي - ثقافي تونسي، يغاير البلدان العربية الأخرى. فقد اختلفت وسبقت تجربة تونس التحديثية التي قادها الحبيب بورقيبة كل الدول العربية، رغم نقصها الديمقراطي الذي عجل بإجهاضها، ولكنها أحدثت تحولات اجتماعية وثقافية لا يمكن القفز عليها وتجاهلها، وما حركة النهضة إلا ابنة التجربة البورقيبية.
وحين قارن الغنوشي بين بورقيبة وبن علي، عبر عن تقديره للأول، حين قال: "بورقيبة عدو يحمل مشروعا ثقافيا واضحا ومشروعا معاديا، ولكنه واضح. ابن على ليس له مشروع ثقافي. يريد أن يحكم بالاعتماد على أسوأ ناس في تونس(...) بورقيبة دكتاتور، ولكنه يحمل رؤية ويحمل مشروعا" (كتاب حوارات مع قصي صالح الدرويش، 1993: 104). ولا يمكن فهم تطور الحركة والغنوشي، إلا ضمن ديناميكية هذا المجتمع المختلف عن أغلب المجتمعات العربية، وعلى وجه الخصوص ما قدمته سلطة ما بعد الاستقلال، في مجال التعليم الحديث.
وما صراع بورقيبة مع الزيتونة، إلا من تجليات صراع الحداثة والتقليدية. واجتماعيا، تحسين وضعية المرأة، وبالذات مجلة الأحوال الشخصية التي أعطتها حقوقا غير مسبوقة في العالم العربي والإسلامي. بالإضافة لمحاولات تجديد في الخدمة المدنية، وحتى المؤسسات السياسية. وكل هذه التحولات صارت من الثوابت التونسية، التي لا تستطيع حركة النهضة أو غيرها من القوى السياسية، تجاوزها أو تجاهلها. وهذا فرق جوهري مع إسلاميي الدول العربية الأخرى.
الاختلاف الآخر متعلق بنشأة الحركة وتطورها. فالحركة الإسلامية في تونس - كما قال هيكل - هي ابن شرعي لتراث الزيتونة والقيروان والأزهر الشريف، وليس إسلام التنظيمات السياسية (مثل الإخوان المسلمين في مصر). ولذلك، فالتيار الإسلامي في تونس أكثر انفتاحا، لأنه ليس مثقلا بتاريخ مثل تاريخ الإخوان المصريين، المثقل باتهامات الإرهاب والاغتيالات والتنظيم الخاص.
وهذا يعني غلبة الفكري والثقافي على طبيعة النهضة، مقابل غلبة السياسوي والتنظيمي على الإخوان وأشباههم. ومن ناحية أخرى، حافظت حركة النهضة على طابعها المديني - الحضري، بينما لاحظ بعض الباحثين (حسام تمام) ازدياد عملية "ترييف" الإخوان المسلمين المصريين، رغم أن نشأتهم كانت حضرية (الإسماعيلية، القاهرة). ويظهر ذلك في أصول عضويتها الاجتماعية وطريقة تجنيدها، ثم المؤسسية والتعامل مع اللوائح والقوانين، وظهور الولاءات الأولية، أي علاقات قائمة على القرابة والجهوية.
تختلف القيادة في حركة النهضة، فقد قدم راشد الغنوشي نفسه كشخصية كارزمية منفتحة على الآخرين، وقادرة على الحوار والاقناع. فقد استفاد كثيرا من وجوده في بريطانيا، وتعامل مع بيئته الجديدة بلا خوف. ولكنه يملك الاستعداد والقابلية لتطوير نفسه، كما تظهر ذلك سيرته الذاتية. فقد عرف الهجرة مبكرا، ففي ستينيات القرن الماضي التحق بكلية الزراعة في جامعة القاهرة. ولكن تدهور العلاقات المصرية-التونسية، أجبره على ترك الدراسة بعد عام والتوجه إلى سوريا، وحصل هناك على دبلوم في الفلسفة والعلوم الاجتماعية من جامعة دمشق. ويقول إنه كان مهيئا جدا للاندماج في التيار العروبي الناصري، فانخرط في الاتحاد الاشتراكي، ولكن هزيمة يونيو1967 قلبت قناعته العروبية.
فقصد باريس بعد التخرج لمواصلة دراسته والتحضير للدكتوراه في الفلسفة الإسلامية. وتعرض لصدمة حضارية في ذلك المجتمع الرأسمالي، ووجد ـ حسب قوله - مرفأ للسلام والنجاة في مسجد صغير في حي فقير للعمال الأجانب. وأنشأ مع عدد من الطلاب المغاربة وطالب باكستاني، نواة للدعوة الإسلامية بمساعدة من جامع التبليغ. فهذا هو أصل تحوله الإسلامي. وعن الفترة السابقة، يقول أحد الباحثين التونسيين (الزغل) إن الغنوشي كان معجباً بالتجربة الشيوعية الألبانية المستقلة، حيث كان مستمعاً مداوماً لإذاعتها العربية.
وقرر مواصلة دراسته في ألبانيا، وهو في إحدى وكالات السفر لشراء بطاقة سفر إلى ألبانيا، صادفه صديق تونسي يدرس في سوريا فنصحه بالتوجه إلى هناك حيث الفرص أوفر. ويقول الغنوشي نفسه إنه أطلق لحيته على طريقة كاسترو، فقد كان يتعاطف مع الثورات العالمثالثية التي لا تبعد عن ثقافته الوطنية. هذه هي خلفية القائد.
تختلف حركة النهضة عن بقية الحركات الإسلاموية، وليست الإسلامية، في مضمون الفكر. ويعفينا الغنوشي نفسة من عبء التمييز، حين يكتب: "يوجد تياران إسلاميان: تيار يحمل مشروعاً ثقافياً نهضوياً قائماً على الإسلام. وتيار يقدم مشروعاً سياسياً، قائماً على خطاب تبسيطي وشعبوي وديماغوجي إذا صح التعبير، يعني قائم على دغدغة انتماء الناس إلى الإسلام، من حيث الانتماء الديني فقط" (حوارات، ص87).
ولذلك فبرنامجه الحالي يقف مع المرأة والتنمية والاقتصاد، والأهم من كل ذلك مع حرية التعبير والتفكير لأقصى حد. وأذكر إجابته عن كتاب سلمان رشدي وتكفيره: "أنا لست قاضياً، وقد أكدت أن القضايا الفكرية لا تعالج قضائياً، بل تعالج معالجة فكرية، والحضارة الإسلامية ليست محدودة، وهي تجربة ليست فقيرة في ميدان الجدل الفكري والجدل العقائدي والسياسي".
يطرح الغنوشي فكرة هامة تمثل برنامجاً مرحلياً حيوياً، أسماها: جبهات التوافق، على كل المستويات: الدينية والسياسية. وهي مبادرة ليست جديدة، ولكنها تطورت بعد التسعينيات، فهي مشروع حوار بين كل النخب السياسية.
وقد طرح بشجاعة مبادرة: نحو توافق إسلامي - علماني. فهو يدعو جميع الذين وقفوا ضد الدكتاتورية ونظام الحزب الواحد، إلى تكوين جبهة وطنية ائتلافية تلتقي حول برنامج عام، يقوم على العدالة الاجتماعية والحريات العامة وحقوق الإنسان. وتضم في صفوفها مختلف المشاريع التي أبانت عن جدارتها في التعبير عن طموحات الأمة. ولذلك، تصر حركة النهضة على تكوين حكومة ممثلة لكل التيارات، حتى تلك التي لم تنجح في الانتخابات.