كما صحَّ القول المعروف: "كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الحرية"، فإنّ جرائم عربية عديدة كانت تُرتكب باسم الهوية العربية.. لكن، هل أدّت الجرائم باسم "الحرية" إلى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلِّ فرد وجماعة وأمَّة؟!

لقد كان الخيار القومي العربي - ولا يزال- يعني القناعة بأن العرب أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة، لكنها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً، وتتكامل فيها الموارد والطاقات. والمتضرّرون من هذا الخيار هم حتماً من غير العرب الذين، في الماضي كما هم في الحاضر، يمنعون تكامل الأمَّة العربية؛ حفاظاً على مصالحهم في المنطقة، وعلى مستقبل استنزافهم لخيراتها ومواردها وطاقاتها المادية والبشرية.

وكان من المفهوم أن يحارب غير العرب (على المستويين الإقليمي والدولي) فكرة القومية العربية، لكن لِمَ إطلاق السهام على هذه الفكرة من بعض أبناء العروبة؟ وما هي أسباب تراجع الدعوة القومية العربية لصالح دعوات أممية دينية، أو إقليمية طائفية؟ وهل يمكن اعتبار الفكر الديني مسألة تتناقض مع فكرة العروبة؟

هذه التساؤلات ليست جديدة على منصّة الأفكار العربية، فهي موضوع لا يقلّ عمره عن مائة سنة، فمنذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديداً حول ماهيّة هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي بعد انتهاء الحقبة العثمانية، إلى دول وكيانات. لكن ما حدث خلال القرن العشرين أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية، بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري. فالعروبة والإيمان الديني حالة متلازمة في المنطقة العربية، وهي مختلفة عن كل علاقة بين الدين والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي.

فتركيا، لكي تبتعد عن الدين (وهو هنا الإسلام)، وتأخذ بالعلمانية وبالمنحى الأوروبي.. كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية. وهذا المثال الذي حدث في تركيا جعل الكثيرين من العرب، المتمسّكين بدينهم الإسلامي، يعتقدون أنَّ الحديث عن العروبة يعني التخلّي أيضاً عن دينهم، قياساً على التجربة التركية العلمانية في مطلع القرن العشرين، بينما الأمر يختلف من حيث العلاقة بين العروبة والإسلام، وهي مسألة خاصّة بالعرب لا تشترك معهم فيها أيّة قومية أخرى في العالم الإسلامي.

فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم. فحينما يتمّ فصل العروبة الثقافية عن الإسلام الحضاري، فكأنّ ذلك هو فصل لغة القرآن الكريم عن القرآن الكريم نفسه، وكأنّه فصل للأرض العربية التي عليها المقدّسات الدينية.. عن الدين الإسلامي.

هذه الخصوصية في العلاقة، تجعل من إضعاف العروبة إضعافاً لوعاء الإسلام الثقافي، والعكس صحيح أيضاً. وحالة الجزائر، حينما كانت تحت الاحتلال الفرنسي، خير مثال على ذلك، إذ حاولت فرنسا أن تضع بديلين في الجزائر: بديلاً حضارياً، وهو الحضارة الغربية بدلاً من الحضارة الإسلامية؛ وبديلاً ثقافياً، حينما حاولت "فَرْنسة" الجزائر وفرض اللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية. فكيف حافظت الجزائر على عروبتها وعلى إسلامها؟ لقد فعلت ذلك من خلال التمسّك بالقرآن الكريم.

فمن خلال التمسّك بالإسلام نفسه، تمسّكت الجزائر بعروبتها. وقد حدثت حالة مشابهة في المشرق العربي، حيث كان الدفاع عن اللغة العربية والثقافة العربية (والذي ساهم فيه العديد من الأدباء المسيحيين العرب)، هو محافظة على لغة القرآن الكريم وتراث الإسلام الثقافي.

فحتى لو كانت هناك ممارسات كثيرة، باسم العروبة أو باسم الإسلام، تسيء إلى العروبة نفسها أو للإسلام نفسه، فإنّ خصوصية العلاقة بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري، تستوجب حرصاً على الهوية العربية لدى كل التيارات الفكرية والسياسية، التي تقود الآن حركة التغيير الشعبية في البلاد العربية. فمن الأخطاء الشائعة، مثلاً، فهم القومية العربية وكأنها أيديولوجية عقائدية وسياسية، بينما القومية العربية هي إطار للهويّة الثقافية، بغضّ النظر عن العقائد والأفكار السياسية، إذ يمكن أن تكون قومياً عربياً علمانياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً إسلامياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً ليبرالياً.. أي نستطيع وضع أي محتوى "أيديولوجي" داخل هذا الإطار القومي. فالقومية هي هويّة، هي إطار تضع فيه محتوًى معيناً، وليست هي المحتوى.

المشكلة التي حدثت، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، تكمن في أنّ معظم الطرح القومي كان في حال تجاهل لدور الدين في الحياة العربية، بشكلٍ أصبحت معه دعوة القومية العربية تعني للبعض الإلحاد أو الابتعاد عن الدين، عوضاً عن طرحها كهويّة أو كإطار ثقافي يشترك فيه العرب كلّهم، مهما كانت اختلافاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الفكرية والسياسية.

وها هم العرب الآن يختلفون حتّى على الهويّة الوطنية نفسها، وعلى ما فيها من تعدّدية داخل المجتمع الواحد. ولم تستطع الطروحات العربية الفكرية، في العقود الماضية، أن تضع أمام الأجيال العربية الجديدة رؤية فكرية سليمة، تستطيع هذه الأجيال أن تعمل في ظلّها لبناء مستقبل عربي أفضل. وبتحديدٍ أكثر، لم ينجح التيار الفكري القومي في القرن الماضي، ثم أيضاً بما اصطلح على تسميته بتيار "الصحوة الدينية" في الربع الأخير منه، في بناء الأسس الفكرية والثقافية السليمة للعرب، حاضراً ومستقبلاً. وهذا يُفسّر ما نراه الآن من صراعات فكرية في المنطقة، ومن تغييب شبه كامل لمسألة الهوية العربية، في الحراك الشعبي من أجل الديمقراطية.

إنّ أساس الخلاف بين التيّارين "العلماني" و"الإسلامي" هو فكري محض، ولا يجوز إلحاق القضايا الوطنية العامة بطبيعة هذا الخلاف. فالهُويّة، الوطنية أو القومية مثلاً، أصبحت ضحيّةً لهذا الخلاف بين التيّارين في المنطقة العربية، بينما لا تتناقض إطلاقاً الهُوية الثقافية للشعوب مع معتقداتها الدينية. إنّ العكس هو المفترض أن يحدث بين التيّارين "الإسلامي" و"العلماني"، أي أن يبقى الاختلاف قائماً في المسألة الفكرية، وأن يتمّ البحث عن المشترك من القضايا الوطنية والاجتماعية، حيث لا دين أو لون فكريا للاحتلال، أو للاستبداد السياسي، أو للفقر، أو للظلم الاجتماعي.

إنّ النقطة المركزية الآن، التي يتمحور حولها الاهتمام السياسي والإعلامي العربي، هي مسألة الديمقراطية المنشودة في المنطقة، والتي ترتبط بآليات انتخابية أو بمؤسسات دستورية، دون الانتباه إلى أنّ أساس العطب في الجسم العربي هو في "الفكر السائد" منذ عقود طويلة في المجتمعات العربية. والحديث عن "الفكر" لا يعني النخب المثقفة في المجتمع فقط، بل هو شامل لما يسود الأمَّة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم، لأمور الدين والدنيا، شكّلت بمجملها الواقع العربي الراهن.

فالفكر السائد الآن في المنطقة العربية، تغلب عليه الانتقائية في التاريخ وفي الجغرافيا، وينطبق عليه ما تعيشه الآن الأمَّة العربية من ظواهر انقسامية مرَضيّة، بأسماء طائفية أو مذهبية أو إثنية، حيث ينظر إليها البعض من أطر جغرافية ضيّقة، وبمعزل عمّا حدث ويحدث من تدخّل خارجي في عموم الأمَّة، كما هو أيضاً الفهم الخاطئ أصلاً للدين أو للهويّة القومية، اللذين يقوم كلاهما على التعدّدية ورفض التعصّب أو الانغلاق الفئوي.