هناك رأيٌ يتكرّر في كثيرٍ من وسائل الإعلام العربية، ويدعو إلى التعامل مع ما يحدث الآن في المنطقة العربية وفق مقولة «حسيبك للزمن»، أي أنّ هذا الرأي يُطالب بعدم الحكم الآن على نتائج ما جرى ويجري من ثوراتٍ وانتفاضاتٍ عربية، وبأن يُترك هذا الحراك الشعبي في مساره الزمني.

لكي يأخذ مداه ويطوّر نفسه بنفسه. هو منطقٌ سليم، لو كان موجّهاً أصلاً للقوى الأجنبية، لكنّه رأيٌ يتكرّر في مواجهة من يبدون تحفّظات ومخاوف على هذا الحراك الشعبي العربي، وعلى المحاولات الجارية لتوظيفه لمصلحة أجندات أجنبية، إقليمية ودولية.

فلو كانت الأوطان العربية أشبه بالجزر المعزولة في المحيط الهادئ، لصحّ ربّما منطق الداعين إلى الانتظار، لكن هذه الأوطان هي على أرضٍ تجمع بين الموقع الجغرافي المهم، الموصل بين قارّاتٍ ثلاث، وبين كونها أرض الثروات الطبيعية ومصادر الطاقة للعالم كلّه، وبين ما هي عليه هذه الأرض من مقدّسات دينية للرسالات السماوية كلّها. وتكفي صفةٌ واحدة، من هذه الصفات الثلاث للأرض العربية، لتجعلها محطَّ أنظار القوى الكبرى وساحة صراعاتهم.

لذلك، فإنّ ما يحدث الآن على الأرض العربية، لا يمكن عزله أو فصله عن إراداتٍ خارجية، ولا عن محاولة التحكّم الخارجي بتفاعلات الداخل العربي. لقد حدث أمرٌ شبيه بذلك في أوروبا الشرقية، في نهاية عقد ثمانينات القرن الماضي.

حيث امتزجت أسباب «الربيع الأوروبي» الداخلية (حكومات مستبدّة فاسدة، ومشاعر وطنية ودينية، ضدّ هيمنة روسية شيوعية)، امتزجت هذه الأسباب مع مصالح دول «حلف الناتو»، فأفرز المزيج داخل حكومات أوروبا الشرقية تغييراتٍ دستورية واقتصادية واجتماعية، مع تغييراتٍ في سياسات وتحالفات هذه الدول على المستوى الخارجي.

حيث أصبح معظمها في «حلف الناتو» وفي الاتحاد الأوروبي. فهل كان يمكن عزل التحوّلات في أوروبا الشرقية عن التدخّل الخارجي، وعن الصراع الأميركي/الروسي، وعن سعي «حلف الناتو» لإسقاط خصمه «حلف وارسو»، ومن خلفه كل منظومة «المعسكر الشرقي»، وفي طليعته «الاتحاد السوفييتي»؟!.. وهو ما حدث لاحقاً بالفعل!

أليست المنطقة العربية الآن أكثر أهمّية، إستراتيجياً وأمنياً واقتصادياً، للولايات المتحدة ولحلف الناتو ممّا كانت عليه أوروبا الشرقية، خاصّةً مع بروز التنافس الدولي حالياً على التحكّم بمصادر الطاقة، وفي ظلّ ما يعانيه الغرب من أزمةٍ اقتصادية خانقة، ومن حربٍ استنزافية في أفغانستان، ومن توتّرٍ متصاعد مع إيران، ومن مخاوف على مستقبل إسرائيل بعد المتغيّرات العربية؟!.

هذه العوامل الموضوعية، عن حتمية وجود تدخّل وتأثير خارجي في مسارات الحراك الشعبي العربي، تزيد من مسؤولية القائمين على هذا الحراك، ولا تشكّك في نوايا وأهداف الحراك نفسه. فهناك حتميةٌ موضوعية أخرى في المنطقة، وهي حتمية إحداث التغيير، والخروج من واقع عربي قائم على الاستبداد والفساد والتبعية للخارج، في معظم البلدان العربية. لكن الأسئلة المشروعة هي: من يقوم بالتغيير، وكيف، وبدعمٍ ممّن، ولمصلحة أيِّ برنامج أو رؤى بديلة للواقع المرفوض؟.

وقد أثرْتُ مطلع العام الحالي، وتحديداً خلال الأيام الأولى لثورة 25 يناير في مصر، هذه التساؤلات والمخاوف، وأعيد الآن الحديث عنها، لأنّ ما حدث مؤخّراً في مصر، وقبلها في ليبيا، وما يحدث حالياً في سوريا واليمن، يؤكّد الحاجة إلى الإجابة عن هذه التساؤلات، كما يؤكّد المخاوف على مستقبل هذا الحراك الشعبي العربي أينما وُجِد.

وذلك من منطلق الحرص عليه، وعلى استمراره في الطريق الصحيح، الذي يجب أن تكون خواتيمه هي أوطان واحدة وموحّدة في كياناتها وشعوبها، وحكومات منتخبة وعادلة ونظيفة، ومجتمعات قائمة على التعدّدية الطائفية والإثنية والفكرية والسياسية والإعلامية، يحكمها دستور يساوي بين المواطنين ويضمن الفصل بين السلطات. هذا كلّه في الإطار الداخلي، الذي لا يمكن الاكتفاء به كعنوانٍ للتغيير العربي المنشود.

فالديمقراطية لا يمكن فصلها عربياً عن مسألتيْ التحرّر الوطني والهويّة العربية. ولعلّ في التجارب «الديمقراطية»، التي حصلت خلال العقد الماضي في لبنان والعراق وفلسطين، ما يؤكّد هذه الخلاصة عن أهمّية التلازم المطلوب بين الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.

فهل، مثلاً، سيدعم «حلف الناتو» هذه الثلاثية المنشودة عربياً، بعدما تدخّل هذا الحلف عسكرياً لدعم التغيير الديمقراطي في ليبيا، وكما يهدّد (من خلال تركيا وغيرها) بتدخّل عسكري في سوريا دعماً للمعارضة؟!

وهل سيسمح للمعارضة الخارجية السورية بإعلان رغبتها (في حال توفّرها) بمواصلة دعم سوريا لحركات المقاومة ضدّ إسرائيل في لبنان وفلسطين؟! وهل مثلاً سيقبل «حلف الناتو» باتحادٍ اندماجي بين مصر وليبيا وتونس؟!

وهل سيترك «حلف الناتو» ثورة مصر، تسير باتجاه تصحيح الخلل الذي حدث مصرياً وعربياً من خلال تحجيم دور مصر، نتيجة «معاهدات كامب ديفيد»؟! وهل سيكون «حلف الناتو» مع دعم نهج المقاومة عموماً ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين والجولان.

ومع حقّ العودة للفلسطينيين؟! ثم لماذا يتمّ إسقاط الهويّة العربية في البرامج السياسية لبعض قوى المعارضة العربية المدعومة من الحلف الأطلسي، وكما حدث أيضاً في الدستور العراقي، الذي جرى وضعه خلال فترة الاحتلال الأميركي؟!

يرافق هذا الحال، على صعيد «حلف الناتو»، وجود مشاريع «إقليمية» مهمّة على جوار الأمّة العربية، وفي قلبها المحتلّ إسرائيلياً. ونجد المنطقة العربية من جديد في حالٍ من الانشداد إلى هذه المشاريع الدولية والإقليمية، دون وجود حدٍّ أدنى من رؤية عربية مشتركة، أو «مشروع عربي» يملأ الفراغ الحاصل بالمنطقة.

فالمراهنات العربية على الخارج كانت لنحو قرنٍ من الزمن سمة السياسات العربية، وبوادرها كانت في مراهنة الزعماء العرب على الأوروبيين، في مطلع القرن العشرين، لمساعدتهم على التخلّص من «الهيمنة العثمانية» التي اشتدّت بها آنذاك حركة التتريك العنصري. وباستثناءٍ محدود في عقديْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

فإنّ الاستقطاب الدولي لدول المنطقة العربية كان هو الحالة الغالبة على قضاياها وحكوماتها. وهاهي المنطقة الآن تعيش مرحلةً جديدة من الاستقطابات الدولية/الإقليمية، في ظلّ غيابٍ متواصل لمشروع عربي مشترك، ولإرادة عربية مشتركة، وهذا ما لن يحدث قبل ظهور نتائج التحوّل السياسي الذي يجري الآن في مصر، لمعرفة كيف سيكون عليه الدور المصري في عموم المنطقة، وما مدى تأثيراته المرتقبة في المشاريع الدولية والإقليمية.

إنّ مصر تشهد الآن ولادة الجمهورية الثالثة فيها بعد جمهورية «ثورة 23 يوليو» التي قادها جمال عبد الناصر، ثم جمهورية «الارتداد على ثورة يوليو» التي حصلت في فترتي السادات/مبارك. ومن غير المعروف بعد كيف ستكون سمات وسياسات هذه «الجمهورية الثالثة» الوليدة حديثاً في مصر ما بعد 25 يناير؟.

هناك بلا شك إيجابياتٌ تحقّقت حتى الآن، من هذا الحراك الشعبي العربي الواسع، لكن مظلّة السلبيات ما زالت تغطّي سماء المنطقة وتحجب شروق شمس التغيير السليم المنشود فيها. والأمل سيبقى عربياً في تغييرٍ سياسيٍّ عربيٍّ شامل، يصبّ في مصلحة الأوطان والعروبة ونهج المقاومة، لا في مصلحة الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة.