الحديث عن جمال عبد الناصر ليس دائماً حديث ذكرياتٍ إيجابية أو سرداً لسيرة بطلٍ عربيٍّ تاريخي، فالحديث عن عبد الناصر يتراوح، في معظم الأحيان، بين حبّ العاشق الذي يرى في محبوبه الكمال، أو كلام الحاقد الذي يعمّم جزئيةً سلبية على الصورة كلّها، فلا يرى فيها إلاّ السواد والظلم والظلام. فالحبّ الشديد، والحقد الشديد، كلاهما يتساويان في تسبّب غشاوة البصر والبصيرة، والإصابة أحيانا بالعمى.
وفي مناسبة الذكرى الرابعة والتسعين لميلاد ناصر (15/1/2012)، أجد أنّ العرب ومصر ما زالوا يفتقدونه، وأنّ الكتابة عنه ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل، أو حنيناً لماضٍ يفتقده عشرات الملايين من العرب، بل هي دعوةٌ للاستفادة العربية والمصرية من نهجٍ "ناصري" واجه أزماتٍ وصراعات لعقدين من الزمن (1952-1970)، وما زالت هذه التحدّيات والصراعات تنخر في جسد الأمَّة العربية.
لقد عاشت المنطقة العربية في بداية الخمسينات وحتى منتصف السبعينات من القرن العشرين ـ رغم الكثير من التعثّر والانتكاس- صحوةً قوميةً عربية لم تعرف لها مثيلاً في تاريخها الحديث. فقبل الخمسينات، وامتداداً في القرون العجاف تحت الحكم التركي ثمّ سيطرة دول الغرب، لم يكن للعرب حولٌ ولا قوّةٌ تُذكر، وهو ما عليه اليومَ حالهم.
لكن جمال عبد الناصر، الذي كان بالنسبة لعموم العرب قائداً تاريخياً وبطلاً تحرّرياً، كان للشعب المصري حاكماً ورئيساً.. والحاكم يعني حكومةً وبيروقراطية وأجهزةً وإجراءات.. إلخ، وليس فقط مواقف وأفكاراً قوميةً وتحرّرية. فبينما عرفه العرب غير المصريين بدوره كقائد تحرّرٍ قومي، عرفه شعب مصر إضافةً إلى ذلك، كرئيس يحكم من خلال أجهزةٍ وأشخاص، فيهم وعليهم الكثير من الملاحظات والسلبيات.
رغم كلّ ذلك، يكفي شهادةً لشعبية عبد الناصر في المنطقة العربية ما حدث في مناسبتين: يوم استقالته بعد حرب 67 (9 و10 يونيو/ حزيران)، ويوم وفاته في 28 سبتمبر/ أيلول 1970، حيث خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع، من المحيط إلى الخليج، وبلا دعوةٍ من أيّ جهة، لتؤكّد تأييدها وحبّها الجارف لجمال عبد الناصر.
ومن المهمّ، خلال استذكار حقبة ناصر وخلاصاتها العربية والمصرية، معرفة الظروف والوسائل والأهداف التي كان يعمل بها ومن أجلها. فقد قامت ثورة 23 يوليو بواسطة جبهة "الضباط الأحرار"، وليس من خلال حزبٍ أو تنظيم موحّد الفكر وأسلوب العمل، وباعتمادٍ على أسلوب "التجربة والخطأ" في تطوير النظام السياسي والاجتماعي. وكانت هناك ظروف داخلية وخارجية محيطة بالتجربة: تجزئة عربية، وتعامل مع الساحة العربية من خلال الحكومات أو من خلال أجهزة المخابرات المصرية. أمّا دولياً، فقد كانت هناك "حرب باردة" بين القطبين الدوليين، لكنّها كانت حرباً ساخنة جداً في دول العالم الثالث، حيث تركت "الحرب الباردة" بصماتها على كل المعارك التي خاضها عبد الناصر، وعلى كلّ مراحل تجربته.
كذلك مرّت التجربة الناصرية داخل مصر بمراحل مختلفة، وكان لكلٍّ منها سمةٌ خاصّة بها:
مرحلة التحرّر الوطني (1952-1956): التي رافقها تشكيل تنظيم "هيئة التحرير" في مصر، والتي انتهت بعد العدوان الثلاثي (البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي) على مصر، الذي عُرف باسم حرب السويس.
مرحلة المدّ العروبي والتحرّر القومي (1956-1961): التي رافقها تشكيل تنظيم "الاتحاد القومي"، وكان ذلك خلال مرحلة الوحدة مع سوريا، وفي ظلّ سياسة عدم الانحياز ودعم ثورات وحركات تحرّر عربية وإفريقية.
مرحلة الفرز الاجتماعي (1961-1967): التي رافقها تشكيل "الاتحاد الاشتراكي"، حيث كانت تلك مرحلة الطرح الاشتراكي والتغييرات الاجتماعية في مصر، وهي مرحلةٌ بدأت مع قرارات يوليو/ تموز 1961 الاشتراكية، واستمرّت إلى حين وقوع حرب العام 1967.
مرحلة التضامن العربي والمواجهة مع إسرائيل: انطلاقاً من مؤتمر الخرطوم (1967)، وصولاً إلى اجتماعات القاهرة لوقف الحرب على الفلسطينيين في الأردن (1970)، مروراً بسنتين من حرب الاستنزاف ضدّ إسرائيل على جبهة القناة، وهي مرحلة النضوج الفكري والسياسي لتجربة عبد الناصر، والبناء السليم للقوات المسلحة المصرية، وتحقيق العلاقات العربية التضامنية. ولعلّ أهم ميزات هذه المرحلة هي أولوية المعركة مع إسرائيل، وأولوية التضامن العربي، وأولوية البناء الداخلي السليم عسكرياّ واقتصادياً وسياسياً.
كانت المشكلة في ثورة 23 يوليو أنّ ساحة حركتها وأهدافها أكبر من حدود موقعها القانوني.. وكانت قضاياها تمتدّ لكلّ الساحة العربية، وأيضا لمناطق أخرى في إفريقيا وآسيا، بينما كانت الثورة محصورةً قانونياً في مصر. إنّ فكر جمال عبد الناصر تَعزّز وتَعمّق (بدعوةٍ منه أصلاً للمثقفين)، من خلال كتاباتٍ عديدة ساهم بها مفكّرون عرب، ومن مصر تحديداً، لبلورةٍ أكثر عمقاً لما وضعه عبد الناصر من خلاصات أهداف وغايات للأمّة العربية:
1- الحرّية بمعناها الشامل لحرّية الوطن وحرّية المواطن.
2- حرّية المواطن بمعناها المركّب من: الحرّية السياسية والحرّية الاجتماعية.
3- العدل الاجتماعي الذي كان يُعبّر عنه كمطلبٍ باسم الاشتراكية.
4- الوحدة بمعناها الوطني الداخلي وبمعناها العربي الشامل، شرط الإجماع الشعبي عليها ورفض العنف كوسيلةٍ لتحقيقها.
5- الاستقلال القومي في مجال السياسة الخارجية، ورفض التبعية الأجنبية.
وقد ارتبطت هذه الغايات لدى عبد الناصر بمسائل ثلاث:
- الأولى: من حيث نبذ العنف كوسيلة للتغيير الاجتماعي أو السياسي أو للعمل الوحدوي القومي.
- الثانية: من حيث الاستناد إلى العمق الحضاري الإسلامي والدور الإيجابي للدين عموماً وللقيم الروحية في المجتمع.
- الثالثة: من حيث مفهوم ناصر للدوائر الثلاث التي تنتمي إليها مصر: العربية والإفريقية والإسلامية، وبحالٍ من التفاعل والتكامل بين الوطنية والعروبة والانتماء الحضاري الإسلامي.
إنّ العرب يستذكرون اليوم جمال عبد الناصر، القائد الذي ناضل من أجل مصر والعرب والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية، وهم كلّهم أملٌ أن تعود مصر إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي الإيجابي في الأمَّة العربية وقضاياها العادلة.
هنا أهمّية ما حدث في مصر في "يناير 2011" من "ثورة" شعبية، كانت في مجملها وفي شعاراتها ثورة على الفساد والاستبداد والتبعية للخارج. والأمل كبيرٌ في شباب مصر وطلائعها الوطنية، أن تنتقل من "الثورة" الشعبية (في الأسلوب)، إلى "الانقلاب" على ما كانت عليه مصر من واقع قبل "ثورة يناير"، لا على واقع الأوضاع الداخلية المصرية فقط، بل للتصحيح أيضاً لما اعتُمِد من مسارٍ سياسيٍّ خارجيٍّ خاطئ في حقبتيْ السادات ـ مبارك.
هنا أهمّية أن يحدث الآن التكامل المطلوب بين ما قامت من أجله "ثورة يوليو" تحت قيادة جمال عبد الناصر، وما كانت عليه من نهجٍ تحرّريٍّ عربي، وبين ما هي عليه "ثورة يناير" من أهداف سياسية واجتماعية. مصر بحاجة إلى هذا التكامل بين الثورتين، والأمّة العربية جمعاء بحاجةٍ أيضاً إليه.