في التراث العربي حكمةٌ مشهورة عن الأمّ التي ارتضت إعطاء ولدها لامرأةٍ أخرى ادّعت أمومته، كي لا يُقطع جسده نصفين، بعد أن أمر بذلك القاضي ليكشف من ردّة الفعل مَن أمُّ الولد الحقيقية.
مسكينةٌ الآن أوطان العرب، فهي يتيمة الأب والأمّ معاً! فلا حكومات ولا معارضات تقبل الآن بحلول وتسويات تنقذ الأوطان من مخاطر الانشطار والحروب الأهلية. أليس كافياً ما حدث حتى الآن في عدّة بلاد عربية، من نتائج لصراعاتٍ داخلية مسلّحة، ومن خلطٍ مميت بين تغيير أشخاص أو أنظمة وبين تفكيك الكيانات الوطنية؟! فكيف هو الآن حال السودان والعراق واليمن وليبيا ولبنان، بل حتّى فلسطين، الرازحة تحت الاحتلال، تشهد انقساماً جغرافياً وشعبياً بين الضفّة والقطاع، بسبب ما حدث منذ سنوات من صراعاتٍ داخلية مسلحة؟!
صحيحٌ أنّ سوء الأوضاع الرسمية العربية يدفع إلى حالاتٍ من العصيان والانتفاضات الشعبية ضدّها، لكن ماذا عن البدائل التي ترث الآن هذا الواقع العربي الرسمي المرفوض؟ وهل هذه البدائل هي ما كانت تطمح الشعوب إليه؟ وهل هي قادرةٌ فعلاً على بناء مجتمعات موحّدة مستقرّة قائمة على العدل والمساواة وضمانات الحريات العامة؟ ثمّ ماذا عن دور القوى الخارجية في كلَّ ما حدث ويحدث، وما هي الأهداف الكامنة عند هذه القوى من وراء دعمها لهذا الحراك الشعبي هنا وهناك؟!
إنَّ الكثير من الحكومات العربية قد أعطت في العقود الماضية الأولويّة لاستمراريّة الحاكم في الحكم، لا لاستمرارية الوطن نفسه. ونجد الآن الكثير من المعارضات العربية تُعطي الأولوية للتغيير في الحكم، لا في المجتمعات التي تتوارث فيها الأجيال مفاهيم خاطئة عن النفس وعن الآخر، في ظلِّ غيابٍ واضح لطروحات وطنية عروبية ديمقراطية، تجذب الشباب العربي وتحوّل طاقاتهم إلى قوّةٍ تجمع ولا تفرّق، تصون وحدة الأوطان ولا تمزّقها.
إنّ أساس الخلل الراهن في جسم الأمَّة العربية هو في رأسها الحاكم، لكن الخلل هو أيضاً في عقول العديد من المفكرين والسياسيين وعلماء الدين، الذين فشلوا عملياً في الحفاظ على الظاهرة الصحية بالتعدّد الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ كلّها في أطر فئوية موجّهة كالسّهام، ضدّ الآخر في ربوع الوطن الواحد. فالتعدّدية كانت قائمةً في البلاد العربية خلال الخمسينات والستينات، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب ولا مانعاً دون خوضٍ مشترك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بل كانت مفخرة معارك التحرّر آنذاك أنّها تميّزت بطابع وطني عام صبغ القائمين بها، فكانت فعلاً مجسّدة لتسمية "ثورات عربية تحررية" و"حركات تحرّر وطني".
اليوم، نصبح ونمسي مع إعلام عربي وطروحات فكرية وسياسية، لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وإثنيات (ولو متستّرة بتسميات سياسية وحزبية)، بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة، بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهويّة العربية المشتركة.
اليوم، نجد دعواتٍ عربية لتصعيد العنف المسلح داخل أوطان عربية، ومناشداتٍ للأجانب من أجل التدخّل العسكري في هذه الأزمات العربية الداخلية، بينما هناك تمسّك عربي بنهج أسلوب التفاوض مع إسرائيل، وبإسقاط خيار الحرب أو المقاومة المسلحة ضدّها، وبتفهّم "ظروف" حلفاء إسرائيل الدوليين وعدم الضغط عليهم من أجل وقف دعمهم لعدوٍّ احتلّ الأرض وشرّد الملايين وقتل وجرح عشرات الألوف على مدار أكثر من ستين عاماً، فلا ضرورة الآن حتّى لقطع العلاقات مع هذا العدوّ، رغم استمرار احتلاله وتهويده المتصاعد للقدس والأراضي المحتلة!
تُرى لِمَ لا يتّم التوافق عربياً على حالةٍ شبيهة بما جرى الاتفاق عليه في العام 1993، بين "منظمة التحرير الفلسطينية" وإسرائيل، وبإشراف أميركي وأوروبي، بأنّ "التفاوض هو الأسلوب الوحيد لحل النزاعات"، وبأن "لا لاستخدام العنف المسلّح"؟ وقد جرى عملياً تبنّي هاتين المسألتين من قبل الحكومات العربية في رؤيتها للصراع مع إسرائيل، حيث جرت المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية طيلة حقبة التسعينات، كما حصلت أنواع مختلفة من التطبيع العربي معها، رغم عدم التزامها لحوالي 20 عاماً بالاتّفاقات مع الفلسطينيين.
ثمّ جرى إعلان "المبادرة العربية للسلام" منذ 10 سنوات، ولم تقبل بها إسرائيل، ولم تُمارس الحكومات العربية حرباً عليها أو ضغوطاتٍ تدفع لتنفيذها، أو حتّى دعوة الفلسطينيين للتخلّي عن "اتفاق أوسلو" ودعمهم مالياً وعسكرياً لخوض مقاومة مسلحة تُحرّر الأرض (والقدس الشريف)، وتُحقّق للشعب الفلسطيني مطلبه المشروع بإقامة دولته المستقلّة.
فحيث تتوجّب المقاومة المسلّحة ضدّ عدوٍّ ظالمٍ محتل، يتمّ تبني خيار التفاوض والتخلّي عن أسلوب الكفاح المسلح. وحيث يجب إسقاط أسلوب العنف المسلّح بين أبناء الوطن الواحد ودعوتهم للحوار الوطني الجاد، يحصل التشجيع الخارجي على إشعال حروبٍ أهلية عربية. وحيث يجب التعامل مع الملف الفلسطيني في "مجلس الأمن الدولي" يتمّ إخراج الملف منه، رغم أنّه في الأساس من مسؤولية الأمم المتحدة، بعد اعترافها بدولة إسرائيل والتسبّب في تشريد الفلسطينيين من وطنهم. وحيث لا ينفع وطنياً ولا عربياً تدويل الأزمات الداخلية لأيِّ بلدٍ عربي، تندفع قضايا عربية إلى مرجعية "مجلس الأمن"!
هو قولٌ شهير لأحد المسؤولين الإسرائيليين بعد المعاهدة مع مصر، بأنّ "أمن إسرائيل يتحقّق فقط حينما يفوق كرهُ العربي للعربي كرهَه للإسرائيلي".
هو انحطاط وهو انقسام حاصل الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها وصراعاتها متعدّدة الأمكنة والأزمنة، خلال العقود الأربعة الماضية. وقد ساهمت في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنة الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعف الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي، إضافة إلى الفهم الخاطئ عموماً لمسألتي الدين والهوية العربية. وها هي الأمَّة العربية الآن تعيش تحوّلاتٍ سياسية خطيرة، هي نتاجٌ طبيعي لتراكم ما حدث من تفاعلات ومتغيّرات في الأربعين سنة الماضية، كان "الخارج" و"الداخل" فيها مسؤوليْن عن عصارة السلبيات التي تنخر الآن جسد الأمَّة.
إن المنطقة العربية تتآكل من الداخل، بينما هي تؤكل من الخارج. والعرب الآن بلا قضية واحدة، وبلا قيادة جامعة، وبلا مشروع عربي واحد يجمع الطاقات ويجابه التحديات. فالشعب الذي لا تجمعه قضية وطنية واحدة أو رؤية مستقبلية مشتركة، يعيش أسير صراعات الداخل التي تعزّز تدخّل الخارج.
قد يسير بعض بلدان هذه الأمَّة نحو الأسوأ والأعظم من الصراعات، وقد تتهدّد وحدة أوطان وكيانات، وقد تستفيد القوى الأجنبية الدولية والإقليمية من تصدّع العرب شعبياً، وتداعيات أوضاعهم سياسياً وأمنياً، وانعدام تضامن شعوبهم وحكوماتهم.. لكنَّ ذلك سيؤكّد من جديد مخاطر النهج الذي تسير عليه هذه الأمَّة، على مستوى معظم حكوماتها وشعوبها و"حكمائها" وحركاتها السياسية. وأرجو أن لا يأتي يومٌ لن ينفع فيه حتّى الندم، ولا حتّى الثورات على الثورات والحكومات معاً.