شهدت البلاد العربية، منذ مئة عام تقريباً، تحوّلاً مهماً بخروجها من الهيمنة العثمانية، ثم وقوع معظمها تحت الهيمنة الأوروبية ونشوء الكيانات العربية المعاصرة. ثلاث قضايا عربية انبثقت آنذاك عن هذا التحوّل التاريخي العربي: قضية "الهويّة" وكيفيّة التعامل مع حال تقسيم ما كان مشتركاً لقرون عديدة من شعوب وأرض وثقافة، ثمّ قضية "التحرّر" بعدما جرى احتلال عدّة بلدان عربية من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وأخيراً قضية "النظم السياسية والدستورية" التي صاغتها قوى الهيمنة الأوروبية.

ومع مرور الزمن، تحوّلت هذه القضايا الثلاث عند شعوب المنطقة العربية، إلى غايات وشعارات وطنية وقومية، تتلخّص في: التحرّر الوطني، والوحدة العربية، والديمقراطية السياسية والاجتماعية.

وقد كانت هناك دواعٍ وأسبابٌ مشروعة لاستقلال العرب عن الدولة العثمانية، التي سيطرت عليها في أيامها الأخيرة اتجاهاتٌ عنصرية تدعو إلى "التتريك" في اللغة والثقافة والسياسة، والتي كانت بذورها تنمو في "جمعية الاتحاد والترقي" وفي "جمعية تركيا الفتاة"، ثم تمكُّن هذه الاتجاهات من حكم تركيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وفوز "دول الحلفاء" فيها.

وبينما كانت بريطانيا تدعم بقوّة هذا التحوّل في الحياة السياسية والثقافية التركية، كانت حليفتها (ومنافستها) فرنسا تدعم الأنشطة العربية الداعية لمواجهة "التتريك"، وقد عملتا بدايةً معاً على تشجيع ودعم الانفصال التركي/ العربي وتقوية المشاعر القومية الخاصّة في الأمَّتين، وعملتا في مرحلةٍ لاحقة على دعم التتريك واعتماد الأحرف اللاتينية في تركيا، مقابل دعم "التغريب" ومحاربة العروبة في البلاد العربية.

كانت بريطانيا قوّة الدفع الأساسية وراء ثورة الشريف حسين ضدَّ الدولة العثمانية، كما احتضنت فرنسا ودعمت "الجمعية العربية الفتاة " و"المؤتمر العربي" في باريس (1913)، وتكوّنت جمعيات في بيروت تعاونت مع جمعيات في المهجر، وقُدِّمت رسائل مشتركة من بعض هذه الجمعيات إلى حكومة فرنسا، تلتمس منها السيطرة على منطقة سوريا ولبنان، بينما اتّجه بعض مثقفي العراق نحو الإنجليز، حيث أيّد بعضهم بسط الحماية البريطانية على البلاد.

وانتهت تلك الحقبة الزمنية المهمّة، بهيمنة بريطانيا وفرنسا على معظم البلاد العربية، بعد تقسيمها وتوزيعها بين القطبين الدوليين آنذاك، وفق اتفاقية "سايكس ـ بيكو". كما شهدت تلك المرحلة انطلاقة مشروع الحركة الصهيونية، الذي كرّسه التعهّد البريطاني المعروف باسم "وعد بلفور"، والذي تحقّق بإنشاء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين التي كانت خاضعةً للانتداب البريطاني.

وحينما تولّت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية قيادة الغرب، وورثت الكثير من مخلّفات الهيمنة البريطانية والفرنسية، ثمّ زعامة القوى الكبرى دولياً بعد سقوط "المعسكر الشيوعي"، كرّرت أساليب المستعمر الأوروبي في المنطقة العربية، وحافظت على مصنوعاته السياسية والجغرافية، كما مارست أيضاً استخدام أسلوب القوة العسكرية والاحتلال، الذي تدفع الآن ثمنه غالياً، مما يُهدّد دورها الريادي العالمي، تماماً كما حصل مع بريطانيا وفرنسا في آخر حروبهما في المنطقة، خلال حقبتيْ الخمسينات والستينات من القرن العشرين.

لقد أدركت القوى الغربية الكبرى أنّها، رغم تجزئة المنطقة العربية والهيمنة عليها، ورغم وجود دولة إسرائيل الحاجز بين مشرق العرب ومغربهم، ورغم "العلاقات الخاصة" مع بعض الحكومات، فقد حصلت في المنطقة معارك التحرّر الوطني وثورات الاستقلال وحركات المقاومة ومحاولات التوحّد بين بعض الأوطان، كما حصلت حرب أكتوبر 1973 والحظر النفطي عن الغرب.

وكان ذلك الإدراك الغربي عموماً، وراء محاولات البحث عن "ضمانات" لحماية المصالح الغربية في المنطقة، ولعدم تكرار الحقبة الزمنية التي امتدّت من أواسط الخمسينات إلى أواسط السبيعنات من القرن الماضي.

كان إخراج مصر من الصراع العربي/ الصهيوني هو الضمانة الأولى التي تحقّقت من خلال "معاهدات الصلح المنفرد" مع إسرائيل، ومن ثمّ عزل مصر عن دائرتها العربية بما يتناقض مع موقعها الجغرافي ودورها التاريخي الطليعي في المنطقة. ثمّ كان التشجيع الخارجي على الصراعات العربية ـ العربية التي اشتعلت، منذ أواسط عقد السبعينات الماضي، حروباً أهلية وصراعاتٍ على الحدود، في مشرق الأمَّة ومغربها.

ثمّ كان تهميش بعض الحكومات للتيّارات السياسية العروبية لصالح تيّارات سياسية دينية، كما حدث في مصر والسودان خلال حكمي أنور السادات وجعفر النميري، وتزامن ذلك أيضاً مع تراجع دور مؤسسة "الأزهر" بسبب تراجع دور مصر نفسها، ثم سوء سياسات وممارسات أنظمة كانت تحكم باسم العروبة والقومية، وأدّى ذلك كلّه في المحصّلة، لاتّساع نفوذ التيّارات السياسية الدينية في البلاد العربية، بما فيها من "غثٍّ وسمين" وصالحٍ وطالح.

لكن غاب عن القوى الغربية الفاعلة درس تاريخ البشرية عموماً، بأنّ الشعوب يمكن تضليلها أو قهرها أو احتلالها لفترةٍ من الوقت، لكن لا يمكن لهذه الشعوب أن تقبل بديلاً عن حرّيتها، وبأنّ الأوطان العربية ولو تجزّأت سياسياً، فهي موحّدة في ثقافتها وفي تاريخها وفي همومها وآمالها.

هكذا كان تاريخ المنطقة العربية طيلة القرن العشرين الماضي؛ كرٌّ وفرّ مع المستعمر أو المحتلّ، لكن لا خضوع له. كما كان القرن الماضي حافلاً بالحركات والانتفاضات الشعبية المؤكّدة على وحدة الأمَّة أرضاً وشعباً، وإن ازدادت المسافات بين الحكومات والكيانات اتساعاً.

المعضلة الكبرى في الأمّة العربية كانت، ولا تزال، هي عدم التلازم المتوجّب حدوثه فكراً وعملاً، بين قضايا التحرّر الوطني والديمقراطية والتوحد العربي. ففي تجارب القرن الماضي، نجد أنظمة وحركات شعبية خدمت قضية من هذه القضايا الثلاث، لكن لم تلتزم بها كلّيةً ومعيّة. هذا ما أتاح في الماضي، ويسمح الآن في الحاضر، بتدخّل قوى إقليمية ودولية لجعل أتباع قضية ضدّ أتباع قضية أخرى، رغم أنّ الأمّة العربية كانت وما زالت تحتاج لهذه القضايا الثلاث معاً.

لذلك، نجد الآن من يستنجد بالتدخّل العسكري الأجنبي من أجل تطبيق الديمقراطية في وطنه! ونجد أيضاً من يقبل بتقسيم الأوطان بحجّة "تقرير المصير" والخيار الديمقرطي! فإذا بالمسألة الديمقراطية الآن سلاحٌ مضاد للتحرّر الوطني ولوحدة الأوطان والشعوب. للأسف، هذه تجربة عاشت الأمّة في العقود الماضية حالاتٍ مشابهة لها، حينما وضعت أنظمة ومنظمات مسألة التحرّر الوطني في مواجهة الديمقراطية، أو حينما مارس بعضها أسلوب القهر والتسلّط على الداخل أو على الجوار العربي، بحجّة القومية والتوحّد العربي.

وها هي الأمّة العربية الآن تعيش لحظةً تاريخية حاسمة، نجد فيها خوفاً على ظاهرة المقاومة المشرفة فيها، نتيجة تفاعلات بعض الحراك الشعبي العربي من أجل الديمقراطية، وما يرافقه ويتخلّله من تدخّل أجنبي صارخ. ها هي الأمّة تتناقض فيها من جديد، غايات التحرّر والتوحّد والديمقراطية، عوضاً عن جعل هذه الغايات معاً معياراً للفكر والحركة في هذه المرحلة، وفي كلّ مرحلة.

فإذا كانت الانتفاضات الشعبية العربية الآن ضد الاستبداد والفساد، تمثل ظواهرَ مشرقة واعدة بغدٍ أفضل، فإنّ نورها الوهّاج، بعد ظلامٍ دامس طال زمنه، لا يجب أن يحجب ما هو قائم في المنطقة من خطر إسرائيلي ومحاولات هيمنة أجنبية، في ظلّ أجواء طائفية ومذهبية تنخر الجسم العربي وتهدّد وحدة أوطانه وتُسهّل السيطرة الخارجية عليه.

إنّ الغرب لم يتعلّم من تجارب "قابلية الاستعمار للانكسار". والعرب كذلك، في المقابل، لم يتعلّموا أيضاً من "قابلية ظروفهم للاستعمار". فالمنطقة العربية لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن، ولم تستفد أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي يتمّ الآن أيضاً تجاهلها، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ دينية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد، ولن يكون هناك بعدها أيُّ معنًى للديمقراطية أو التحرّر أو التوحّد.