قضيتان مهمّتان تتفاعلان في منتصف أبريل الجاري، وسيكون لهما الأثر الكبير على قمّة "مجموعة الثماني" المقرّرة منتصف الشهر المقبل، وعلى كيفيّة العلاقة بين أقطاب العالم اليوم: حلف الناتو الأميركي/ الأوروبي، مقابل التحالف الروسي/ الصيني. وستظهر ملامح ما سيكون عليه "النظام الدولي التعدّدي الجديد"، من خلال النتائج المترتّبة على التعامل مع هاتين القضيتين.
القضية الأولى هي مبادرة كوفي أنان بشأن سوريا، وما حصل خلفها وحولها من توافق بين الأقطاب الدوليين، والقضية الثانية هي المفاوضات المقرّرة بين الأعضاء الدائمين في "مجلس الأمن" إضافةً لألمانيا، مع إيران بشأن ملفها النووي. طبعاً، هناك ترابط عملي بين الملفّين السوري والإيراني، رغم اختلاف عنوان كل ملف.
فالقوى الدولية الرافضة للتصعيد السياسي والأمني هي نفسها في الملفين، تماماً كما هي القوى الدولية نفسها التي تضغط ضدّ طهران وضدّ دمشق.
وقد شهد العالم في الأشهر القليلة الماضية، تصعيداً دبلوماسياً خطيراً في الملفين السوري والإيراني، وصل إلى درجة من السخونة بحيث خرجت تصريحات ومواقف من جهات إقليمية ودولية متعدّدة، تتحدّث عن مشاريع ضربات عسكرية ضدّ مواقع إيرانية، وعن احتمالات تدخّل عسكري أجنبي في سوريا على غرار ما حدث في ليبيا. لكن كل هذا التصعيد الإعلامي والدبلوماسي بشأن هذين الملفين، والذي حصل نتيجة التباين في المواقف بين موسكو وبكين من جهة، وواشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، قد خف أخيراً بعدما لمس "حلف الناتو" جدّية الموقفين الروسي والصيني، وبعد "الخطوط الحمراء" التي وضعتها موسكو ضدّ أيّ عملٍ عسكري أجنبي في إيران وسوريا.
وتدرك الولايات المتحدة وخلفها الاتحاد الأوروبي، مخاطر التأزّم في العلاقات مع موسكو وبكين في هذه المرحلة التي يقف فيها الاقتصاد الأوروبي والأميركي على حافة الهاوية، وحيث توجد أيضاً حاجةٌ قصوى لعلاقات طيّبة مع روسيا الاتحادية، لتسهيل عمل قوات "الناتو" في أفغانستان والتي تعاني من أوضاع صعبة تتفاقم يوماً بعد يوم. وها هو فلاديمير بوتين يعود الآن لرئاسة روسيا الاتحادية، على قاعدة السياسة التي أطلقها أولاً في مؤتمر ميونخ عام 2007، حيث أكّد آنذاك رفضه للقطبية الدولية الواحدة وللانفراد الأميركي بتقرير مصير العالم، ممّا اعْتبِر حينها نقطة تحوّل في سياسة موسكو ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
فمنذ ذلك التاريخ، تنظر روسيا إلى السياسة الأميركية على أنّها مصدر خطر مباشر على المصالح الروسية. أيضاً، تحذّر موسكو من سياسة واشنطن العاملة على نشر منظومة "الدرع الصاروخي" في عددٍ من الدول، وتعتبر ذلك تهديداً للأمن القومي الروسي. كذلك، أدركت موسكو أنّ الوجود العسكري في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع امتداد حلف الناتو في أوروبا الشرقية. لكن السياسة الروسية "البوتينية" لم تكن بالضرورة عودةً إلى أجواء الحرب الباردة وإلى سباق التسلّح بين موسكو وواشنطن، بل من خلال السير بخطى ثابتة، ولو بطيئة، لاستعادة بعض مواقع النفوذ التي فقدتها موسكو عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. الآن تعود موسكو غير الشيوعية إلى منطقة "الشرق الأوسط" وهي دولة كبرى قادرة على المنح والمنع معاً.
إنّ العالم يشهد اليوم هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية الأميركية، مقابل تصاعدٍ ملحوظ لدور روسيا والصين، وما حدث ويحدث من توتّر وخلافات، خاصة بين واشنطن وموسكو، ليس مجرد غيمة عابرة تصفو بعدها العلاقات بين البلدين. لكن أيضاً، ما نشهده من أزمات سياسية بين البلدين، ليس حرباً باردة جديدة بين قطبين دوليين. فأبرز سمات "الحرب الباردة" التي سادت بين موسكو وواشنطن خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت قائمةً على مفاهيم إيديولوجية فرزت العالم بين معسكرين: شيوعي شرقي، ورأسمالي غربي، وهذا الأمر غائبٌ الآن عن الخلافات الروسية/ الأميركية. كذلك، فإنّ "الحرب الباردة" قامت على تهديدات باستخدام السلاح النووي بين الطرفين (كما حدث في أزمة صواريخ كوبا مطلع الستينات).
وعلى حروب ساخنة مدمّرة في دول العالم الثالث، في سياق التنافس على مواقع النفوذ، وهي حالات بعيدة كلّها الآن عن واقع الأزمات الراهنة بين موسكو وواشنطن. فأولويّات روسيا الآن هي مصالحها المباشرة وأمنها الداخلي وأمن حدودها المباشرة في أوروبا، وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً، كما حاولت واشنطن أن تفعل من خلال توسيع عضوية حلف الناتو وعبر مشروع الدرع الصاروخي.
وتتصرّف موسكو حالياً مع إدارة أوباما، على أمل أن تكون أكثر تفهّماً للموقف الروسي من الإدارة السابقة، وأن يحترم الرئيس أوباما السياسات التي أعلنها حينما تولّى الحكم، لجهة وقف الانفراد في القرارات الدولية، واحترام مرجعية الأمم المتحدة. ورغم التباين والخلافات القائمة حالياً بين البلدين، فإنّهما يحرصان على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقفٍ محدد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتجاه. فأوروبا هي بيضة الميزان الآن في العلاقات الروسية/ الأميركية.
وهناك عدّة دول أوروبية (غربية وشرقية) لا تجد لها مصلحةً في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن، ولا تريد أن تكون في حال الاضطرار للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدر مهم للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي. وهذا الموقف الأوروبي، هو عنصر مهم الآن في ضبط العلاقات الروسية ـ الأميركية.
إنّ لائحة القضايا المختلَف عليها بين موسكو من جهة، وواشنطن و"الناتو" من جهة أخرى، هي بلا شك لائحة كبيرة، لكنّ موسكو تدرك أيضاً حاجة واشنطن و"حلف الناتو" للتنسيق معها في القضية الأفغانية. فالحرب في أفغانستان جرت وتستمر في إطار مسؤولية حلف "الناتو" ومشاركة قوات أوروبية وكندية، تبحث دولها الآن عن مخرج لها من المستنقع الأفغاني، بينما تستفيد موسكو طبعاً من محاربة "الناتو" لجماعات "طالبان" و"القاعدة"، ودرء مخاطرها عن الأمن الروسي في أقاليم إسلامية تابعة للاتحاد الروسي أو في جمهوريات دائرة في فلكه. لكن موسكو أيضاً لا تجد ضرراً في انغماس "الناتو" في مستنقعٍ ساهم في إسقاط روسيا السوفييتية، وقلّص نفوذها الدولي.
إنّ روسيا، بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، لا يمكنها أن تكون منعزلةً أو محصورةً فقط في حدودها. هكذا كانت روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية، وهكذا هي الآن روسيا "البوتينيّة". وهناك مصلحة لكل دول العالم في تصحيح الخلل في ميزان العلاقات الدولية، والعودة إلى مرجعية دولية متوازنة في التعامل مع الأزمات القائمة الآن، ووقف التفرّد الأميركي الذي حصل في ظل الإدارة الأميركية السابقة والحروب التي خاضتها بلا مرجعية "مجلس الأمن الدولي".
وإذا أحسن الروس والصينيون توظيف هذه المرحلة، فإنّ ذلك قد ينعكس إيجاباً على كل الأزمات الدولية، وفي مقدّمتها الآن أزمات منطقة "الشرق الأوسط"، التي تشمل ملفات مترابطة بتداعياتها وأطرافها؛ من الملف الإيراني إلى الأحداث في سوريا وإلى الصراع العربي/ الإسرائيلي.
لكن سيكون من الحماقة تكرار الأخطاء العربية التي حصلت على مدى أكثر من قرنٍ من الزمن، بالمراهنة دائماً على طرف خارجي (إقليمي أو دولي) في تحقيق المصالح العربية، بأبعادها الوطنية والقومية. فالمصالح الوطنية والقومية العربية، تتطلّب أولاً الاعتماد على الذات العربية وتحسين واقع الحال العربي، في أجزائه الوطنية وفي كلّيته العربية.
إنّ المنطقة العربية كلّها على شفير الهاوية، وهي تعاني من صراعات عربية "رسمية" و"شعبية"، إضافةً إلى معاناتها من مشكلات الاحتلال والتدخّل الخارجي، ومن أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية مزمنة في معظم بلدانها، وهذه الأوضاع السيئة هي التي شجعت أصلاً على التدخّل الخارجي والهيمنة الأجنبية. والأهمّ الغائب حالياً، هو تصحيح "الثقل العربي"، قبل وضعه في أيّ ميزانٍ للعلاقات الدولية.